Saturday November 23, 2024     
00
:
00
:
00
  • Street journal

هل يمكن أن نعول على الصين؟

هل يمكن أن نعول على الصين؟

فارس الجيرودي

 

« الصين تغتصب بلادنا اقتصادياً، و تسرق فرص العمل من مواطنينا، ولا يمكننا السماح لها بالاستمرار بذلك»

دونالد ترامب 

 لم يُعطَ هذا التصريح للمرشح الأمريكي دونالد ترامب الأهمية التي يستحقها في وسائل الإعلام، مقارنةً بما أدلى به ترامب خلال حملته الانتخابية من تصريحات حول إعجابه الشخصي بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين مثلاً، وفي حين لم تسمح ما يسمى بمؤسسات الدولة العميقة في أمريكا لترامب بترجمة إعجابه الشخصي ببوتين تقارباً سياسياً مع روسيا، لم يجد ترامب بالمقابل إلا التأييد في دوائر صنع القرار الأمريكي تلك، للحرب الاقتصادية الشرسة التي بدأها ضد الصين منذ دخوله البيت الأبيض.

فبالإضافة لرفع الرسوم الجمركية الأمريكية على السلع المستوردة من الصين والتي وصلت في بعض الحالات لنسبة 25% "وهو ما يخرق كل مبادئ التجارة الحرة التي ظلت الولايات المتحدة تنادي بها لعقود طويلة"، وجهت الإدارة الأمريكية رسالة حادة شديدة الوضوح للصين الأسبوع الماضي، من خلال اعتقال "مينغ وانغو" المديرة الهامة  في شركة هواوي، وابنة مؤسس الشركة الصينية المرشحة لتصبح خلال السنوات القادمة، شركة الهواتف المحمولة الأكثر مبيعات في العالم، والأولى في مجال تصميم شبكات نقل البيانات "5G".

ترافق اعتقال "مينغ وانغو" في كندا بناءاً على طلبٍ قضائي أميركي، مع قرار من الإدارة الأمريكية بحظر استخدام المعدات التي تنتجها شركات الهواتف الصينية المحمولة في المؤسسات الحكومية الأمريكية، بدعوى الخشية من استخدامها في عمليات التجسس من قبل الحكومة الصينية، ويمكننا أن نقرأ في نص رسالة الاعتقال تلك، عدة نقاط بالغة الدلالة: 

- فيما تسامحت الولايات المتحدة مع سيطرة الصين على  قطاع الصناعات الاستهلاكية التقليدي، كصناعة الأجهزة المنزلية، ودخولها الأخير بقوة قطاع صناعة السيارات، فإنها لن تتسامح مع المجال الأخير الذي لا يزال الغرب يحتفظ بالتفوق النوعي فيه: مجال الذكاء الصنعي و تكنولوجيا الاتصال و الشرائح الالكترونية الدقيقة، وهي لم تتوان عن خرق أي خط أحمر في سبيل إيقاف التطور الصيني المتسارع في هذا المجال (حيث وفرت الصين خلال العقدين الماضيين سلعاً رخيصة للمستهلك الغربي، وأرباحاً كبيرة للمستثمرين الغربيين الذين نقلوا معامل انتاجهم إليها، بسبب رخص اليد العاملة الصينية، ولا تريد واشنطن أن يتكرر الأمر نفسه فيما يخص الهواتف المحمولة و تكنولوجيا شبكات نقل البيانات).

- السطر الثاني المهم في الرسالة الأميركية هو رفض الاعتراف بالمكانة الاستثنائية للصين التي تميزها عن دول العالم الثالث، وتعطي لمواطنيها حصانة حمل جنسية دولة عظمى، تمتلك حق الفيتو في مجلس الأمن، وهو ذات الرفض الذي تواجهه روسيا وأي دولة لا تنتمي للمنظومة الغربية.

- كما اختارت واشنطن كندا كأرض تنفذ عليها علمية الاعتقال، لتفهم بكين، أنها تواجه مع الولايات المتحدة جبهةً عريضةً من الدول الغربية الحليفة للولايات المتحدة، وهي الدول التي تمثل في الواقع الأسواق الرئيسية المستوردة للمنتجات الصينية.

 لكن الصين ليست الطرف الوحيد في العالم الذي يواجه العدوانية الاقتصادية  الأمريكية، فعلى خلفية تدخلها العسكري إلى جانب الدولة الوطنية في سوريا، واجهت روسيا في وقت سابق من هذا العام ، وكأحد نتائج العقوبات الغربية عليها، انهيار أسهم شركة روسال إحدى أكبر شركات التعدين في العالم، وواحدة من أكبر خمس شركات روسية على الإطلاق، حيث وصلت الشركة حد الافلاس، كما واجهت دول أخرى حليفة تقليدياً لواشنطن كتركيا عقوبات مماثلة أدت لانهيار حاد في عملتها المحلية، هذا بالإضافة للعقوبات القديمة المتجددة على إيران إثر انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي معها.

لذلك كان من البديهي ووفقاً لقانون الفعل ورد الفعل الذي يسري في عالم السياسة تماماً كما في عالم الفيزياء، أن تسعى مجموع تلك الدول المتأثرة بأضرار الغارات الاقتصادية الشرسة التي تشنها واشنطن على العالم، لتأسيس نظام اقتصادي عالمي بديل، عن النظام الاقتصادي الحالي الذي تهيمن عليه واشنطن وتتحكم بمفاصله، من هنا ظهر بنك "التنمية الجديد" الذي  تموله دول البريكس «الصين وروسيا والهند وجنوب افريقيا»، حيث تخطط هذه الدول لجعله الذراع الاقتصادي الجديد لها، في مواجهة البنك الدولي و صندوق النقد الدولي اللذين تمولهما  الولايات المتحدة الأمريكية، كما أعلنت القوى الخمس السابقة عن خطة استراتيجية جديدة لتأسيس شبكة انترنت بديلة عن الشبكة الحالية التي تسيطر عليها أميركا.

بالإضافة لما سبق ورداً على العقوبات الاقتصادية التي تفرضها واشنطن عبر تحكمها بنظام تحويل الأموال العالمي "السويفت" على الأفراد والشركات والدول، أعلنت روسيا في تشرين الثاني الماضي الانتهاء من تصميم نظام سويفت روسي يضاهي نظام السويفت الدولي الحالي، كما أعلنت أن كلاً من البنوك المركزية في الصين وإيران وتركيا سيعتمدون هذا النظام إلى جانب البنك المركزي الروسي.

على الرغم من كل التحولات الاستراتيجية السابقة الذكر، والتي تبشر بعالم جديد منعتق عن أسر الهيمنة الأمريكية، لا زال البعض من المنتمين لتيارات اليسار في منطقتنا يردد لا تعولوا على الصين وبوتين في مواجهة الجموح الأمريكي، مكرراً حقيقة بسيطة مفاداها أن الصين وروسيا تبذلان كل ما في وسعهما لتجنب الصدام مع واشنطن، فيما يتناسون بالمقابل أن الجموح الأمريكي لم يترك فرصةً لأحد في هذا العالم بتحييد نفسه، وكأننا في سوريا أوإيران أو كوريا الشمالية كنا نسعى للصدام مع واشنطن أصلاً لو لم تضطرنا لذلك، حسب هؤلاء المتشائمين لا أمل بمقاومة التغول الأميركي إلا باستعادة الشيوعية و الاتحاد السوفيتي من متاحف التاريخ السياسي، وكأن الايديولوجيا تمتلك قدرة تأثيرٍ على السياسات الدولية أكبر مما تمتلكه حقائق الاستراتيجيا.

 

المصدر: خاص

بواسطة :

شارك المقال: