ضوء جديد في آخر نفق الأزمة السورية
فارس الجيرودي
نزل الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" غصناً آخر نحو أسفل شجرة التصعيد التي تسلقها من خلال سلسلة مواقفه التصيعدية ضد دمشق منذ اندلع الصراع السوري قبل 8 سنوات، ففي ما يبدو أنه تهيئة للرأي العام التركي وللجمهور الإخواني المؤيد لأدروغان في العالم العربي من أجل تقبل خطوات تراجع جديدة قادمة في المستقبل، صرح أردوغان في حديث لقناة TRT:«بأن الاتصالات مع حكومة دمشق مستمرة على مستوى منخفض رغم عدم تواصل الزعماء».
تصريحات أردوغان الجديدة تتقاطع مع معلومات تشير إلى أن الاتصالات غير المباشرة بين أنقرة ودمشق، لم تنقطع من خلال الوسيطين الروسي والإيراني، الذين كانوا ينقلون للجانب التركي الخطوط الحمر التي حددتها دمشق، تجنباً لاحتمال اصطدام غير مقصود وغير محمود العواقب بين القوات التركية التي اجتازت الحدود في مناطق خارجة عن سيطرة الجيش السوري، وبين القوات السورية الحكومية التي تقدمت لتعيد فرض سيطرتها على مناطق واسعة احتلتها الميليشيات المسلحة المدعومة من تركيا خلال سنوات الحرب.
لكن تصريحات أردوغان الأخيرة تشكل نقلة نوعيةً في الخطاب الذي اعتاد توجيهه منذ العام 2011، وخصوصاً بعد نجاح الجماعات المسلحة خلال بعض سني الحرب في السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي السورية، بما في ذلك أجزاءٌ من مدنٍ هامة، حيث كانت سوريا في الخطاب الأردوغاني تبدو كأرضٍ «سداح مداح» وكأن الدولة التي كانت تحكمها سقطت، لذلك يعتبر الاعتراف الأردوغاني الأخير بالاتصال مع حكومة دمشق، والذي تلا الحديث التركي الرسمي عن "اتفاق أضنة"، شبيهاً بالحديث الإسرائيلي عن اتفاقية "فصل القوات"، والذي تزامن مع بدء حملة استعادة سيطرة الدولة السورية على منطقة جنوب البلاد المحازية للجولان المحتل .
أما على الناحية الأخرى فتعكس الأجواء المتسربة عن معسكر حلفاء الدولة السورية، ارتياحاً لتطورات الموقف إثر إعلان الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" نيته سحب كامل القوات الأمركية من سوريا، فسواء تم تنفيذ الانسحاب الأمريكي أو تم تأجيله كما تضغط لذلك مراكز قوى في واشنطن، فإن الإعلان الرئاسي الأمريكي نقل الأزمة أتوماتيكياً إلى داخل معسكر حلفاء واشنطن، إذ أن بقاء القوات الأمريكية سيفسر على أنه التزام بحماية ميليشيات "قسد" الكردية، في وجه حليف واشنطن المهم في الناتو تركيا، وسيزيد بالتالي من الهواجس التركية بشأن مخططات الولايات المتحدة لهز الاستقرار في تركيا، وزعزعة وحدتها الداخلية، خصوصاً على خلفية إصرار واشنطن على توفير الملجأ للمعارض التركي "عبد الله غولن" الذي تتهمه أنقرة بتدبير انقلاب 2016 الذي كاد يطيح بأردوغان، بالتالي إبقاء القوات الأمريكية في سوريا، سيؤدي بالضرورة إلى مزيدٍ من اقتراب أنقرة من خصمي الولايات المتحدة طهران وموسكو، وابتعادها عن الناتو أكثر.
في السياق ذاته يعطي الانفجار الأخير الذي تعرضت له القوات الأمريكية في منبج، فكرةً عما يمكن أن يتعرض له الوجود الأمريكي في حال عدم تنفيذ وعد الانسحاب، فإذا كان الانفجار الأخير يحمل توقيع "داعش" كما أُعلِن، يمكن أن تحمل تفجيرات في المستقبل توقيع عناصر سورية محلية، مدعومة من دمشق وطهران .
بالمقابل سيعني تنفيذ وعد الانسحاب الامريكي الذي قطعه ترامب، تخلياً كاملاً عن ميليشيات "قسد" الوكيل الوحيد المتبقي للنفوذ الأمريكي في الساحة السورية، مع العلم أن "قسد" فقدت سلفاً ثقتها بالحليف الامريكي، وشرعت في إرسال الوفود إلى كل من موسكو ودمشق، وإلى الضاحية الجنوبية من بيروت كما كشف أمين عام حزب الله في لقائه التلفزيوني الأخير.
ويبدو التوصل إلى اتفاق بين دمشق و"قسد" يعيد سيطرة الحكومة السورية على منطقة شرق الفرات السيناريو الأقرب للتحقق، والحل المناسب لجميع الأطراف، وسجل "قسد" خلال الحرب السورية يؤهلها لمثل ذلك، أكثر من غيرها من المجموعات المسلحة التي سوت أوضاعها بعدما خاضت اشتباكات دامية مع الجيش السوري، وهو ما تجنبته "قسد"، إذ تبدو حادثة الاعتداء على عناصر الأمن العسكري في الحسكة في أيلول من العام 2018 الحادثة الوحيدة في هذا السياق، وتشير المعلومات إلى وجود أصابع أمريكية خلفها، حينها سارعت"قسد" للاعتذار من الحكومة السورية، كما امتنعت في كل البيانات الرسمية الصادرة عنها وحسب تصريحات جميع مسؤوليها، عن المطالبة بانفصال المنطقة التي تسيطر عليها عن سوريا، بل خفضت سقف مطالبها من الحكم الذاتي إلى مطلب ما تسميه بـ"الإدارة الذاتية الديمقراطية".
ويتحدث مطلعون على تفاصيل المفاوضات بين دمشق و"قوات سوريا الديمقراطية" عن انحسار الخلاف إلى نقطة إصرار الطرف الكردي على المحافظة على قوات ذات تركيبة كردية تعلن انضمامها للجيش السوري، وتقوم بحماية المناطق التي تسيطر عليها في شرق وشمال سوريا، مع رفع العلم السوري والالتزام بالتبعية لوزارة الدفاع السورية.
حيث اشتقت قسد مشروع" الإدارة الذاتية الديمقراطية" الذي تنادي من تنظيرات "عبد الله أوجلان" الزعيم الكردي المعتقل في السجون التركية، والذي تخلى من معتقله عن مطلب انفصال الأكراد في الدول الأربعة التي يتوزعون عليها«تركيا،العراق، إيران، وسوريا» واستبدل ذلك بما يسميه«وحدة الشعوب تحت ظل الديمقراطية» حيث رأى أن الحل للقضية الكردية، ولكل المشاكل الاثنية في المنطقة، يكمن في وحدة شعوب المنطقة، لكن ضمن إدارة ذاتية لكل شعب، حيث تتولى تلك الإدارة الذاتية تنظيم قوات تحمي مناطقها.
من جهتها رفضت دمشق مطلب "قسد" جملةً وتفصيلاً، واعتبرت وجود قواتٍ عسكرية ذات لون إثني أوطائفي في سوريا، توطئةً لاستئناف مشروع لبننة المنطقة، الذي بدأته الولايات المتحدة عام 2003 بعد غزوها للعراق، إذ نقلت وقتها التجربة الطائفية اللبنانية إلى العراق بكل تفاصيلها، ما أنتج دولةً فاشلة مفككة، تم استبدال السياسات التنموية فيها، بالصراعات الطائفية.
كما أن سوريا تبدو الدولة الأقل قابلية لتطبيق مشروع أوجلان، فالأكراد فيها لا يشكلون أغلبية ساحقة في منطقة متصلة جغرافياً كحالهم في تركيا والعراق، فنسبتهم في المنطقة التي يسيطرون عليها لا تصل حتى لحد الـ50%، كما انتهت تجربة رفض شروط الحكومة السورية قبل معركة عفرين، إلى نتائج مؤلمة، فالميليشيات المدعومة من تركيا والتي اجتاحت المدنية نفذت علميات سلب ونهب وسيطرة على منازل، وتهجير وتغيير في الخريطة الديموغرافية للمنطقة.
بينما سيؤدي الاتفاق بين دمشق والميليشيات الكردية إلى سحب كل الحجج التي يتذرع بها أدروغان لتوسيع السيطرة التركية شمال سوريا، كما يتوقع أن يكون توطئةً لمفاوضات أخرى مباشرة تجمع الحكومتين السورية والتركية، لتنسيق حملة ضد إمارة جبهة النصرة المتشكلة حديثاً في ادلب، بعد سحب الفيتو التركي عن العملية السورية-الإيرانية-الروسية المنتظرة هناك، وهذا كان فحوى تصريحات وزير الخارجية التركي "تشاوويش أوغلو" بعد القمة الروسية –التركية الأخيرة في موسكو.
فالآفاق لحل سياسي لوضع ادلب ماتت تماماً خلال الشهر الماضي بعدما صفت جبهة النصرة آخر ما تبقى من وجود للجماعات المسلحة المعارضة لدمشق في المحافظة، لتحول ادلب وريفها ومناطق من ريف حلب الغربي إلى إمارة جديدة للقاعدة، تشبه إمارة "داعش" التي لم يتجرأ أي طرف دولي على معارضة هجوم الجيش السوري وحلفائه لاجتثاثها.
المصدر: خاص
شارك المقال: