مشروع أمريكي جديد في سوريا
فارس الجيرودي
فيما تشير المعلومات الى أن القوات الأمريكية أتمت عملياً سحب معظم قواتها الرئيسية من منطقة شرق الفرات، يبدو أن حاصل صراع القوى المتعاكسة داخل مراكز صنع القرار في واشنطن، رسى أخيراً على الإبقاء على وجود عسكريٍ رمزيٍ على الأرض السورية، قوامه 200 عسكري في منطقة شرق الفرات، مع تغيير مهمتهم الرسمية من محاربة داعش إلى «حفظ السلام»، مع احتمال إبقاء 200 عسكري أمريكي آخرين في منطقة التنف.
ويأمل ترامب بأن هذا الحل الذي يوفق بين رغبته بالانسحاب من سوريا، وبين المعارضة الشرسة التي لقيها قراره من المتحكمين بأجهزة الدولة الأمريكية العميقة «بالذات الاستخبارات»، سيضمن له ليس فقط تخفيف الضغط السياسي والإعلامي ضده في الداخل الأمريكي، بل أيضاً استمالة حلفائه الأوروبيين، الذين اعترض مسؤولوهم على قرار الانسحاب الامريكي دون التنسيق معهم، كما قد يكفل إعادة شيء من الثقة لحلفاء واشنطن الرئيسيين على الأرض السورية قوات "قسد" التي سارع مسؤولوها إثر إعلان ترامب عزمه انسحابه من سوريا، إلى إرسال الوفود إلى دمشق والضاحية الجنوبية وموسكو، بهدف التفاوض على اتفاق لتسليم المنطقة للقوات الحكومية السورية، استباقاً للهجوم التركي الذي يتوعد به أردوغان على منطقة شرق الفرات.
لكن عملياً على الأرض لا ينتظر أن يغير قرار الإبقاء على 200 أو 400 جندي أمريكي، من حالة فقدان الثقة بواشنطن من قبل حلفائها السوريين "قسد"، الذين باتت معظم قياداتهم مقتنعةً بأن الوجود الأمريكي بالنهاية لن يدوم، وأن لا ضمانة حقيقية لهم ولقاعدتهم الشعبية خارج التفاهم مع القوة الأكثر قدرة على الفعل والتأثير على الساحة السورية، حكومة دمشق المدعومة بتحالف إقليمي ودولي راسخ.
ولوحظ بوضوح من خلال تصريحات وزير الدفاع بالوكالة "باتريك شانهان" علامات تعويلٍ أمريكي على إقناع الأوروبيين بإبقاء قوة مشتركة تضم ما بين 800 إلى 1500 جندي، بهدف إقامة مشروع «المنطقة الآمنة» الموعود، لكن تحت إشراف الولايات المتحدة وحلفائها، وهو أقرب إلى الحل الذي اقترحته أطراف من "قسد" للالتفاف على مشروع المنطقة الآمنة بنسخته الأردوغانية.
لكن فرص نجاح الرهان الأمريكي بإقناع الحلفاء الأوروبيين بإبقاء قواتهم بعد انسحاب معظم القوة العسكرية الأمريكية الرئيسية من سوريا ، تبدو ضئيلةً أيضاً، فالانفجار الذي استهدف القوات الأمريكية في منبج الشهر الماضي، يثبت أن مهمة قوات حفظ السلام المفترضة لن تكون سهلةً، في ظل وجود الامكانيات و الإرادة لدى قوى عدة لتنفيذ تفجيرات مشابهة، إذ أظهرت تجارب الأوروبيين العسكرية في مواقع مشتعلة أخرى من العالم، أنهم أقل قدرة على احتمال الخسائر البشرية من الأمريكيين أنفسهم.
وعكس المعول عليه في واشنطن من آمال تحسين وضع أمريكا في الصراع السوري، يُنتَظر أن يفاقم قرار ترامب حالة الإحباط التركي، من سياسات الولايات المتحدة في سوريا، إذ يعتبر تراجعاً عن وعود الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" للرئيس التركي أردوغان في يوم 23/12/2018 والتي سربتها يومها شبكة الـ"CNN" حيث قال ترامب لحليفه التركي: «لقد انتهينا ..سوريا كلها لك»، حيث فسرت التصريحات الترامبية في وقتها، بأنها ضوء أخضر لتركيا، لتنفذ عملية عسكرية واسعة ضد قوات "قسد" شرق الفرات، ولتقيم مشروع المنطقة الآمنة الذي واظب أردوغان على المطالبة به منذ بداية الحرب السورية، فيما ظلت طلباته المتكررة تقابل بتسويف أمريكي.
لذلك يُفتَرض أن يزيد قرار ترامب بابقاء وجود عسكري رمزي شرق الفرات، من قناعة الحكومة التركية بأن الجانب الأمريكي ورطها في الصراع في هذا البلد، بعد أن أغراها بأحلام استعادة الامبراطورية العثمانية، لينتهي به الأمر إلى المراهنة على أعدائها على الساحة السورية : ميليشيات "قسد" المرتبطة بـ"حزب العمال الكردستاني"، الذي يعمل بسحب هواجس تركيا، من أجل تنفيذ مشروع تقسيمي للأرض التركية، لذلك لن تجد حكومة "العدالة والتنمية" إلا الحضن الروسي-الإيراني لترتمي فيه أكثر، محتميةً من مخاوفها من نوايا واشنطن، التي لا زالت حتى اللحظة تصر على إيواء أخطر المعارضين لنظام أردوغان "عبد الله غولن" المتهم من أنقرة بتمويل وتخطيط الانقلاب الذي كاد يطيح بأردوغان عام 2016، بناء عليه يُنتَظر أن تدفع التطورات الأخيرة بأردوغان لتقديم مزيد من التنازلات لبوتين فيما يخص ملف ادلب.
من جهتها تراقب الدولة السورية وحلفاؤها، الصراعات في المعسكر الأمريكي، ولسان حالها يقول ما قاله هارون الرشيد للسحابة «أمطري حيث شئت فخراجك في نهاية المطاف عندي»، فالـ 4 آلاف جندي أمريكي الذين انسحبوا قبل أن تبدأ عمليات المقاومة الشعبية ضدهم، مؤشر على أن الـ400 الباقين لن يصمدوا طويلاً بل قد يتحولون إلى مشاريع رهائن حقيقيين للضغط على واشنطن، بدل أن يكونوا وسيلة ضغط لابتزاز تنازلات من دمشق كما يخطط لهم.
المصدر: خاص
شارك المقال: