مواطن على دور "الشاورما" ينتظر.. دائماً وأبداً وكالعادة
افتتح حينها محل "شاورما" جديد كبير وطعامه "مُزنخ" بما فيه الكفاية ليسد رمق الشعب من عوز الدسم والثقل في هذه المرحلة الانسيابية من الأزمة المليئة بالخفة، ولتكتمل فرحة الشعب أعلن صاحب ذاك المحل عن خصم شامل على كافة منتجاته بنسبة توفير تصل إلى 200 ليرة سورية بالقطعة الواحدة، تلك الخطوة التي تكفي تماماً لحشد شعوب المنطقة كلها على بابه، بل واستقطاب وفود دبلوماسية من الأراضي الإقليمية والأقطار الشقيقة، وهكذا أصبح تحصيل سندويشة من ذلك المكان بمثابة مغامرة طويلة تحتاج لمرونة وصبر منقطعا النظير.
واشباعاً لحاجة "فتحي" الكبيرة للانخراط بالمجتمع، قرر دون تردد تناول وجبته في هذا المحل تحديداً ودوناً عن منافسيه الخمسة بالمنطقة الذين يقدمون "السندويشات" بذات مستوى الجودة المتدني وبذات "الزنخة"، تقدم الرجل الأربعيني الأصلع بطلبه "للكاشير" ووقف في الدور بمنتهى الهدوء وهو ينقل أنظاره بين أيدي زملائه بالانتظار، محاولاً من استراق النظر لأرقام "الفيشة" إحصاء كم شخصاً قبله وكم عليه أن ينتظر، وعندما تأكد أن ساعة من وقته لا تكفي اليوم للانتظار، ابتسم بسكينة ودس يديه بجيوبه وبدأ يلهو خارجاً بدخان سيجارته تارة وبخطوات النسوة المارة تارة أخرى.
خلال انتظاره الطويل وريثما كان الجوع يأكل من وعيه قسماً لا بأس به، استحضر "فتحي" ذكرياته العتيقة على طوابير الانتظار التي وقف بها في مسيرته، فهو كغيره من الشعب معتاد على فلسفة الوقوف بالدور، فمنذ يوم ولادته وهو ينتظر، بدءاً بانتظار أن تفرغ إحدى أسرة حاضنة المستشفى الحكومية التي ولد بها، وبعدها انتظار معلمه ليعاقب زميلاً ما فيشغر مقعداً في الصف يجلس عليه، وكذلك انتظار نهاية الفرصة المدرسية ليشترِ "منقوشة زعتر" بعد انتقال طابور التلاميذ من التدافع أمام الكشك إلى التدافع صوب الصف، ولم يفته كم انتظر حتى أنهى معاملة إصدار الهوية في نهاية المرحلة الإعدادية، وكل ورقة رسمية بعدها عانى بأزقة الدوائر الحكومية لاستخراجها من أحضان الموظف الثقيل المتثاقل المسؤول عنها.
ولم يستطع إخفاء ضحكته عندما تذكر حيلته المميزة للزواج، حيث انتظر "فتحي" ابنة عمه "فتحية" لتقطع الثلاثين من العمر حتى يتقدم لخطبتها بعد التأكد من انسحاب جميع المنافسين كي لا يُعلي عمه اللئيم بمهرها، وبعدها استحضرته ذاكرته سريعاً بعدد المرات الهائلة التي انتظر بها في أدوار الفرن الآلي، وكوبونات السكر من المؤسسة، وفي طوابير لا متناهية لحصص المازوت، والغاز، والبنزين، وعلى مواقف الحافلات وأرصفة الشوارع وفي المناسبات والأعياد، وكانت أفضل ذكرياته بالانتظار عندما وقف على السطح حاملاً إبرة التلفاز صوب السماء ليستطيع أولاده حضور مباراة نهائي كأس العالم بأقل تشويش وكلفة ممكنة، محاولاً أن يستشف النتيجة من حماسة صوت جارتهم المشهورة بولائها الكروي الكبير للفرق ذات اللاعبين الوسيمين.
ليخلص بعدها فتحي إلى أنه قضى ثلاثة أرباع عمره في الانتظار، وأنه انتظر أكثر مما أخذ، ووقف بالدور أكثر مما وصل، وأن فلسفة الطابور باتت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته، مدركاً أنه بات اليوم ينتظر الموت بسكينة تامة بعدما اطمئن على أبنائه وعلمهم ثقافة الانتظار وأهم أساسياته بمنتهى الحرفية ليرسلهم لأولى طوابير حياتهم منذ أيام وهو شديد الفخر بهم، وبعدهل قُطعت سلسلة أفكاره بصوت موظف "الكاشير" ينده: "الطلب رقم 369 فتحي" فغمرته الفرحة وصاح: "نعم أنا فتحي بشحمه وصبره" فاستطرد الموظف سريعاً: "خلص السيخ نفقنا، راجعنا بعد أسبوع، قصدي رجاع بكرا".
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: