زواج القاصرات في سوريا.. مشكلة إنسانية وحقوقية
د. مدين علي
تعد ظاهرة زواج الفتيات القاصرات من الظواهر الاجتماعية، التي تؤثر بصورة سلبية على شروط الاستقرار الاقتصادي، ومتطلبات التوازن الاجتماعي. وفي الأحوال كافة هي ظاهرة ليست جديدة في سوريا، كانت قائمة قبل الحرب، واستمرت بصورة أكثر وضوحاً طوال سنواتها. تعود في بعض أسبابها لعوامل اقتصادية عديدة، يندرج في مقدمتها عامل الفقر، الذي يمكن أن يدفع كثيراً من الأسر والعائلات، لتزويج بناتهن بأعمار صغيرة، وذلك كوسيلة للتخلص من تكاليف الإنفاق على إعالتهن وتعليمهن، وتأمين مستلزمات حياتهن السلعية والخدمية.
لكن دوافع العائلات السورية نحو تزويج بناتهم بصورة مبكرة، لا تقتصر على الأسباب الاقتصادية فقط، على الرغم من كونها عامل مسبب أو مساعد بقوة، بل تتعداها إلى دوافع أخرى، وأسباب ثقافية واجتماعية، ترى في عملية الزواج المبكر وسيلة أو طريقة، يمكن أن تساعد في التخلص من بعض مصادر الحرج الاجتماعي، المتولدة من الثقافة الاجتماعية السائدة، ومن عرف المجتمع، وطبيعة العادات الاجتماعية والتقاليد، التي تؤثر بقوة في تحديد طبيعة فهم الأسرة و المجتمع، لمعنى العائلة، وصلات القربى والرحم والسمعة الاجتماعية، والمكانة العائلية، وشرف الأسرة والنسب ، وسلم الارتقاء الاقتصادي والاجتماعي والطبقي، ومعنى تأخر زواج البنت بالمقارنة مع بعض مثيلاتها من الأهل والأقارب والجيران.
وفي الأحوال كافة أن الحرب الدائرة في سوريا، إلى جانب الارتفاع الكبير في مختلف مستويات التهديد الأمني، ومظاهر عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كل ذلك أُثر بقوة في وعي المجتمع السوري، والعوامل المحددة لسلوك الأفراد والجماعات، تحديداً لجهة ما يتعلق بكيفية تقدير الموقف، وآليات اتخاذ القرار، ومحددات التعاطي مع مختلف المشكلات والظواهر الاقتصادية والاجتماعية، التي تندرج في سياقها ظاهرة الزواج المبكر، التي شهدت تطوراً ملحوظاً في سورية طوال سنوات الحرب، إذ قارب عدد واقعات الزواج المبكر حدود (400) ألف واقعة منذ عام 2010 وحتى نهاية عام 2019، مع الأخذ بالحسبان، أن النسب الأعلى، تركزت بصورة كبيرة في الأوساط المغلقة والبيئات الثقافية الراكدة. لذلك ازداد عدد السكان الناجم عن الزواج المبكر بصورة كبيرة، خلال السنوات (2010 - 2019) حتى قارب حدود الــ (1) مليون نسمة، الأمر الذي تسبب في توليد طلب إضافي كبير على كثير من الخدمات الاقتصادية والاجتماعية (كالمساكن والخدمات الصحية وخدمات التربية والتعليم والكهرباء ووسائط النقل والاتصالات... وغير ذلك) ما كلف الدولة إنفاقاً مالياً كبيراً بلغ مئات المليارات من الليرات السورية، انعكست مفاعيله السلبية بقوة على الموازنة العامة للدولة، التي شهدت نمواً كبيراً في حجم العجز المالي، الذي بات ينذر بنتائج خطيرة وكارثية، ما يتطلب العمل بقوة، لاتخاذ إجراءات نوعية، تستهدف معالجة الأسباب الجوهرية، التي وقفت وما تزال وراء تنامي العجز.
وفي ضوء ما تقدم، تنبهت الحكومة السورية للمخاطر الحقيقية، الناجمة عن ظاهرة الزواج المبكر، ولذا اتجهت نحو اتخاذ مجموعة من الإجراءات والتدابير، للحد من هذه الظاهرة، إذ قامت برفع سن الحد الأدنى لزواج الشباب إلى سن (18) سنة، كما قامت بتعديل المادة (16) من قانون الأحوال الشخصية، التي تتضمن رفع سن الزواج للشاب والشابات حتى إكمال سن (18). وتعديل المواد (469، 470، 471 ،472) من قانون العقوبات، لجهة ما يتعلق بفرض عقوبات جزائية، تطال الأطراف ذات العلاقة بواقعة الزواج المبكر (الاهل والشاب وعاقد القران). إلا أن الإجراءات المذكورة على أهميتها، لم تستطع حتى اللحظة الراهنة، أن تضع حداً لهذه الظاهرة، التي انتقلت من دائرة الضوء إلى دائرة السوق السوداء ، حيث غالباً ما يجري عقد القران الشرعي، دون أن يتم توثيقه في دوائر النفوس والأحوال المدنية، إلى أن تبلغ الفتاة سن (18) سنة، ما يعني أن معالجة المشكلة، تتطلب من الحكومة السورية إضافة لما تقدم، العمل لإجراء تغييرٍ هيكلي سريعٍ وعاجلٍ يطال منظومة الوعي، وبنية القيم والمفاهيم الثقافية والاجتماعية الراكدة، التي توفر الغطاء الأيديولوجي لهذه الظاهرة، والعمل بسرعة على تفكيكها، وذلك بالتوازي مع الإسراع بتنفيذ سياسة سكانية، تتضمن برامج عمل تنفيذية، إلى جانب تنفيذ سياسة تنموية قطاعية و إقليمية، تمتلك روافع مالية ونقدية قوية، وأدوات تخطيطية حقيقية للنهوض بالواقع الاقتصادي، تحديداً لجهة ما يتعلق بتحسين المستوى المعيشي للأسر والعائلات السورية.
إن معالجة ظاهرة الزواج المبكر والتصدي لأسبابها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يساعد الدولة السورية كثيراً، في الحد من عجز الموازنة العامة للدولة، عن طريق الوفر المالي، الذي يمكن أن يتحقق لمئات المليارات من الليرات السورية اللازمة لتمويل الإنفاق على خدمات الصحة والتربية والتعليم والكهرباء والمياه والمساكن ووسائط النقل والاتصالات والسلع والخدمات وفرص العمل، كما يساعد في توفير الفرص البديلة للفتيات القاصرات، لمتابعة تعليمهن وتحسين إمكاناتهن، بصورة تساعدهن في الحصول على فرص عمل أفضل، وعوائد دخل بديلة، يمكن أن تأتي عن طريق فرص العمل التي تتطلب شهادات ومؤهلات علمية أعلى.
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: