تركيا .. هوية غامضة ودور ملتبس
وسام ابراهيم
منذ نشوء الجمهورية التركية الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى، ونجاح الرجل المؤسس مصطفى كمال أتاتورك في فرض رؤية وأيديولوجيا جديدة لدولته تحاكي النمط الغربي الأوروبي، أصبح الصراع بين هويتين متناقضتين -شرقية وغربية- هو السمة التي صبغت الحياة السياسية داخل تركيا في السنوات اللاحقة، بفعل التاريخ والجغرافيا وتركيبة السكان، لترخي بظلالها على السياسة الخارجية وتجعل الدور التركي ملتبساً ومريباً.
تقع تركيا في قارة آسيا، إلا أنّ جزءاً مهما منها مع عاصمتها الاقتصادية يقع في القارة الأوروبية، وإذا كانت تركيا تعتبر دولة متوسطية، فإن إشرافها على البحر الأسود يعادل وجودها على المتوسط، بينما تشكل البلاد خليطاً من فئات عرقية ودينية أثرت كثيراً في تحديد الهوية، التي يسعى كل طرف لإصباغ الدولة بها وصهر الآخرين في بوتقتها.
وإذا كان أتاتورك قد نجح خلال فترة حكمه حتى خمسينات القرن الماضي بقبضة قوية من تثبيت هوية دولة قومية أناضولية علمانية أوروبية التوجه، كشرط للحصول على الهوية الأوروبية التي حلم بها، فإنّ فترة السبعينات وماتلاها شكلت منعطفاً مهما بعودة التيار الديني كقوة سياسية في الساحة الداخلية، وبات الشغل الشاغل لحماة "الأتاتوركية" هو المكافحة في سبيل الحفاظ على علمانية الدولة في وجه تنامي القوة الدينية الصاعدة، لتتبلور مع بداية الألفية الحالية الصورة الجديدة بوصول حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان إلى السلطة، وهو قوة دينية إسلامية التوجه، تحابي الغرب، وعينها على الشرق، حالمة باستعادة الأمجاد العثمانية.
كل ماسبق، وقد تم سرده بشكل مقتضب، تسبب بضياع الهوية التركية، وجعل سياستها الخارجية غامضة ومريبة، ويمكن الاستدلال على هذا الضياع من خلال التجمعات والمنظمات المتناقضة والمتضادة التي دخلتها تركيا، فهي عضو حلف شمال الأطلسي "الناتو" من ناحية، وفي منظمة المؤتمر الإسلامي من ناحية ثانية، كما أنّها تجاهد منذ أكثر من نصف قرن لدخول الاتحاد الأوروبي.
الموقع والدور الملتبس لتركيا جعلها تزعم أنّها جسر بين قارتين أو ثقافتين، لكن هذا الادعاء ضعيف وغير مقنع، ولا يخفي حذر جيرانها في الشرق والغرب في التعاطي معها، وهو ماجعل معظم علاقاتها الخارجية تتراوح بين العداء والصداقة الحذرة.
وفيما ترفض أوروبا المسيحية تركيا المسلمة وتتخوف من أهدافها ونتائج انغماسها في العمق الأوروبي، وتراها بعين التاريخ والجرح النازف من الاستيلاء على القسطنطينية، فإنّ للشرق مشكلته مع "الجمهورية الحائرة"، فالعرب مازالوا يشعرون بالمرارة بسبب الخضوع لعدة قرون للسلطنة العثمانية، ويتخوفون من فتح الأبواب أمام عمقها التاريخي والاستراتيجي، كما أنّ لإيران تاريخ من الصراع مع تركيا منذ أيام الفرس والحثيين في العصور القديمة، وترى فيها دولة منافسة في الإقليم بدور مريب، بسبب وجودها أولاً وقبل كل شيء في حلف الناتو المعادي لإيران، ولايمكن إغفال علاقة تركيا السيئة باليونان والحقد اليوناني بسبب المشكلة القبرصية، والتوتر مع بلغاريا ومعظم دول الجوار التي تحوي أقليات تركية، تستخدمها تركيا كمبررات للتدخل واحتلال أراض في دول الجوار.
أما في العلاقة مع العراق وسوريا فقد كشفت أحداث "الربيع العربي" مدى سلبية تركيا في التعاطي مع الأزمتين وانقلابها على الصداقات التي شكلت استثناءاً اساساً منذ بداية الألفية الحالية وحتى ماقبل اندلاع الأحداث في سوريا والعراق، هذه السلبية المستندة على قاعدتين أساسيتين رغم تناقضهما المبني على الهوية غير الواضحة لتركيا: الأولى نابعة من نظرة تاريخية عثمانية على اعتبار الجوار العربي جزءاً من الإمبراطورية البائدة، والثانية نابعة من الدور الوظيفي لتركيا في إطار تحالفها مع الغرب.
مشكلة الهوية التركية مازالت تشكل تحدياً كبيراً في الحياة السياسية داخل تركيا بالقدر الذي تشكله من تحديات في سياساتها الخارجية، ويبدو مع فشل جميع الاتجاهات السياسية داخل تركيا في وضع قواعد وقيم متوازنة تراعي التركيبة الداخلية وترسم سياسة خارجية واضحة، فإنّ تركيا ستبقى في نظر محيطها القريب والبعيد الدولة الملتبسة الدور، والجار المريب، الذي لا يؤتمن جانبه.
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: