ترامب ينسحب ويصدم الحلفاء
فارس الجيرودي
مارس الأمريكيون بالأمس عادة أثيرةً على قلوبهم، وهي عادة التخلي عن الحلفاء والانسحاب دون سابق إنذار، وقع المفاجأة كان واضحاً ليس فقط على ردات فعل الحلفاء الصغار في قسد، بل إن تصريحات المسؤولين الأوروبيين -فرنسيين وبريطانيين- أظهرت أنهم "آخر من يعلم"، وحدهم الأتراك والإسرائيليون تلقوا إشعاراً مسبقاً بالخطوة الأمريكية، ولعل هذا ما يفسر إعلان الرئيس التركي قبل أيام عن خطةٍ لشن حملة عسكرية تركية شرق الفرات ضد من تعتبرهم تركيا امتداداً لإرهابيي حزب العمال الكردستاني.
وهو ما يشرح أيضاً أسباب العملية الاستعراضية الإسرائيلية التي أعلن عنها نتنياهو على الحدود الشمالية، تحت عنوان "درع الشمال"، والتي يبدو أنها لم تكن سوى محاولة إسرائيلية استباقية لتفادي ردات الفعل السلبية للانسحاب الأمريكي على الرأي العام الإسرائيلي، ذلك بعدما كان نتنياهو نفسه قد طمأن الإسرائيليين في تموز الماضي إلى أن الانسحاب الأمريكي من سوريا، لن يكون إلا مقابل إنسحاب إيران و حزب الله منها.
إذاً ليس وحدهم مسؤولو ما يمسى بـائتلاف "قوات سوريا الديمقراطية" من يشعرون بالخذلان نتيجة الخطوة الأمريكية، فلقد اجتاحت تعبيرات الشعور بالخيبة تعليقات المحللين والخبراء الإسرائيليين على القنوات العبرية أمس، بل نقلت القناة العاشرة عن مصدر إسرائيلي مسؤول وصفه ما حدث بأنه "ضربة قاسية لإسرائيل".
ما زاد في وقع الصدمة، تصريحات مسؤول أمريكي أن الانسحاب سيشمل منطقة التنف على مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية، ما يعني بحسب محللين صهاينة، إزالة آخر ما يعيق فتح ما وصفوه بأتوستراد سريع من السلاح والمقاتلين بين طهران ودمشق وبيروت.
كما كشف المسؤول نفسه أن واشنطن ستسحب من شرق الفرات كل الموظفين العاملين في خارجيتها خلال 24 ساعة، الأمر الذي يذكر بحالات هروب مماثلة في التاريخ الأمريكي، كالهروب من فيتنام عام 1975 ، والهروب من بيروت عام 1983، وهو ذاته ما كان السفير الأميركي السابق في دمشق روبرت فورد قد توقع حدوثه عندما خاطب الميليشيات الكردية شرق سوريا، في تصريح له العام الماضي محذراً «لا تراهنوا علينا، فليس هناك أمريكي واحد مستعد للموت من أجل الرقة أو القامشلي، آفاق وجودنا في سوريا لن تختلف عن كيف انتهى وجودنا في بيروت في الثمانينات»، ما اختلف مع ترامب أنه لم ينتظر سقوط خسائر بشرية في صفوف القوات الأمريكية حتى ينفذ انسحابه.
من ناحية أخرى قد تبدو الخطوة من الناحية الظاهرية رشوةً أميركيةً لتركيا في محاولةٍ لاستعادتها من الحضنين الروسي والإيراني في أستانا، خصوصاً أنها جاءت إلى جانب المنحة الأخرى المقدمة لأنقرة والمتعلقة بالإفراج عن صفقة الباتريوت.
لكن الأمر أعقد من ذلك، فالوجود العسكري التركي في سوريا، يستفيد ذرائعياً من الوجود الأمريكي، والانسحاب الأميريكي اليوم، يعني أن الانسحاب التركي قادم غداً أو بعد غد على أبعد تقدير، كما أن الخطوة الأمريكية لا تترك أمام ميليشيات "قسد" إلا بوابة دمشق للاحتماء من الحملة التركية القادمة، والوقت أمام هؤلاء لم يفت بعد كما تؤكد التصريحات الرسمية السورية.
النقطة الاستراتيجية الأخرى الهامة في القرار الأمريكي، أنه تزامن مع إعلان مصادر مقربة من الرئاسة التونسية أمس عن مشاورات مع دول عربية، من أجل دعوة الرئيس السوري بشار الأسد إلى القمة العربية القادمة في آذار المقبل في تونس، ما يفهم منه تلقي الدول العربية إشارةً أميركية للتأقلم مع واقع الانسحاب الأمريكي من المعادلة السورية، خلال المئة يوم المهلة التي أعطاها ترامب لاستكمال تنفيذ الانسحاب، وهي نفسها الفترة التي تفصلنا عن موعد القمة.
مهما اختلفت التقديرات حول نتائج الانسحاب الامريكي من سوريا، يبقى الثابت سقوط المقولة المضللة التي روجت لها وسائل الإعلام النفطية الهوى، المعادية للدولة السورية، حول انتهاء الحرب إلى تقاسم أمريكي روسي للجغرافيا السورية، ففي سوريا انتصر حلف وهزم آخر، والذي رجح كفة الحلف المنتصر وجود الدولة السورية وخلفها الأكثرية الشعبية الداعمة لها في أساس تكوينه، وما نعيشه اليوم من تداعيات استراتيجية على مستوى الاقليم والعالم ليس سوى ثمرات ذلك النصر الكبير، الذي حسم نهاية عصر القطبية الأحادية الأمريكي، ومهد لبزوع عالم جديد أكثر توازناً.
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: