قمة عربية في "الميكرو باص"
عبد الغني الحمد
شاحب الوجه، منتفخ العينين، نهض من فراشه بطريقة جعلت المشهد أشبه بانتزاع الروح من الجسد، فهو لم ينم كثيراً، حال يومه كحال باقي الأيام، نوم قليل، والتزامات كثيرة، سار باتجاه الصنبور، لكن طريقه كان طويلا، فقد تسرّب إلى مسامعه صوت مذيع الأخبار وهو يقول، "اتفق العرب على توحيد الجهود"، أخذ يفكّر ملياً بالاتفاق، وماهية الاتفاق، ومن هم العرب الذين اتفقوا، وعلى ماذا، وفيما انهالت الأسئلة عليه، نفض صنبور المياه ماءه الغزير على وجهه فأفاق مجدداً بعد أن أفاق قبيل دقيقتين.
دقائق قليلة كانت كافية لإعادة السيناريو اليومي له قبل التوجه نحو العمل، فبعد أن يستيقظ مباشرة يتناول فطوره وينظف أسنانه ويرتدي ملابسه وينظف حذائه، كل ذلك في مدة لا تتجاوز ربع ساعة.
"لم تسعفني ذاكرتي في تذكر ما إذا كنت قد أكلت وجبة الفطور"، حدث نفسه سرّاً، فرغم أنه ضعيف الذاكرة عادةً، لكنه تذكر كل ما له علاقة بصوت مذيع الأخبار منذ أن سمع خبر "اتفاق العرب"، وعلى موقف "الميكرو باص"، ناشدته معدته بصوتها المكتوم، فأدرك حجم المصيبة، "لم أعرف إن أكلت أو لا .. يا لي من أحمق".
على أنغام ما يسمى اصطلاحاً بـ "التراث الشعبي"، سارت الحافلة، وصوت الآلات الموسيقية الصاخبة الممتزجة بصياح المغني، تضرب المسامير في رأسه، لكنّه مضطر وسيتحمل، فلا حافلات كثيرة على هذا الخط، وإن وجدت فليس من وقود كاف، السائق يتمايل طرباً، والركاب استحالوا أوراق عنب بشرية نتيجة الازدحام، وفيما هو واقف يراقب عجوزاً سيتخلى عن كرسيه، أطلّ موجز الأخبار برأسه، ودون مقدمات، بدأ المذيع بصوته الأجش: "مرحباً مستمعينا .. موجز لأهم الأنباء، أكد القادة العرب المجتمعون في تونس على أهمية العمل العربي المشترك في استعادة الحقوق العربية المغتصبة"، لكن لحظة .. أين سمعت ما يشبه هذا من قبل؟، سأل نفسه وقد بدت عليه ملامح الدهشة.
أول ما قفز إلى ذهنه، كان مصطلح "دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008"، إذ أنه وفي ذات العام، استضافت العاصمة السورية قمة عربية شهدت حضوراً دبلوماسياً على أعلى المستويات في تاريخ القمم العربية، وفي خلاصة القمة، اتفق الدبلوماسيون على بنود عدة كان أحدها " تفعيل العمل العربي المشترك في استعادة الحقوق العربية المغتصبة"، وفي هذا الحين شعر بالدم يضخ في رأسه كل خطابات القمة آنفة الذكر، وكلمات الترحيب بالوفود في المطار، وشعارات الصحف والراديو والتلفاز، ولصاقات القمم العربية التي اجتاحت الشوارع، فزمجر غاضباً، واحمرّت وجنتاه وتطاير الشرر من عينيه، وصاح في وسط الجموع، "رجعلنا الدبكة يستر على عرضك معلم".
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: