Saturday November 23, 2024     
00
:
00
:
00
  • Street journal

مغامرات الباص الداخلي

مغامرات الباص الداخلي

محمد عيسى محمد

بقي ربع ساعة فقط لموعد الوصول إلى العمل، وأنا أتشاور مع نفسي هل أستقل تكسي أم أصعد الباص؟

ومع ارتفاع آجار التكاسي، يخطر في ذهني أني أهدرت الكثير من المال هذا الشهر، ونحن في الأسبوع الأول منه، وعليّ الاقتصاد أكثر من ذلك، وبما أن اليوم في بدايته وأنا بكامل نشاطي، ولست بمزاج ملائم للاستماع إلى مغامرات وبطولات سائق التكسي المُحتمل، قررت صعود الباص ذهاباً، تاركاً التكسي للإياب.

ها قد بدأ الباص الصيني يلوح في الأفق، وحشود الناس تنتظره على الموقف، شعرت أن رحى الحرب ستدور بعد قليل، تربصت في موقع مناسب لأتمكن من الانقضاض على المكان الأفضل.

كان الباص يقترب، والشبان يرمقوني بنظرات التحدي، إنهم يتحدونني، وهم لايعرفون حجم الحرب التي بدأوها والنار التي فتحوها على أنفسهم.

توقف الباص وبحركة لولبية شبيهة بمناورات أبطال القفز على الحواجز، استطعت أن أدس نفسي بالحافلة، واحتلال ركن خلف الباب الآلي.

وعلى خلاف قانون الفوتبول، الذي يسمح بتبديل لاعب بلاعب آخر، فقد كان تبديل الراكب هنا بعشرات الركاب.

اندفعت الجماهير، ونال كل شخص موقعاً له..

تتوقف جودة المكان الذي يمكن أن تحصل عليه داخل الباص، على قوتك البدنية، ومهاراتك بالوثب، وإلمامك بفنون قتال الشوارع.

أحمد الله، إذ إن حصولي سابقاً على الحزام الأسود بالكاراتيه، جعلني أتمكن دائماً من مقارعة أشرس الركاب، والحصول على الموقع الذهبي بالقرب من الباب، الشيء الذي يحلم به معظم (مقاتلي) أو بالأحرى راكبي الباص.

انطلق الباص، وأُغلق الباب، إلا أن فرحتي بنشوة الظفر بالانتصار لم تدم طويلاً، فبعد أمتار قليلة توقف الباص، وفتح الباب فجأة، لاكتشف أن كعب حذائي كان عالقاً خلف الباب، حاولت أن أسحب قدمي فأدى ذلك إلى اهتراء حذائي.

هنا سيطرت عليّ كل المشاعر إلا السعادة، بعد فقدان أحد أحذيتي التي طالما ارتحت بها كثيراً.

فتحت فمي لكن الكلمات لم تتمكن من الخروج من بين شفتي، ولم أستغرب ذلك، لأني مُعتاد على عدم الارتياح الذي كان يظهر عليّ عندما انحشر مع أعداد ضخمة من الناس في مكان ضيق كهذا.

وعادت إلي ذكريات رحلة الكفاح في المواصلات، التي كانت دائماً تعرف طريقها في مثل هذه المواقف لتضرب حواسي كعاصفة هوجاء، نظرت في وجوه الناس، وبدأت أفكاري تعود من مكان بعيد جداً.

قطع تفكيري المفتش عن البطاقات بسؤاله المعهود، هل قطعت تذكرة؟

أجبته: نعم، محاولاً جهدي ألا أورط نفسي بعبارات طويلة.

وفجأة انتقلت من الشعور بالتعاسة، إلى الشعور بالغثيان والدوار، الذي قد يكون أحد أسبابه البعيدة هي (الخضخضة) بسبب المطبات الاصطناعية والطبيعية على الطريق، وقد تكون الروائح الكريهة كرائحة التعرق المنبعثة من الأشخاص الملاصقين لي هي أحد الأسباب القريبة والقريبة جداً لهذا الشعور الغريب.

انقبض صدري، على ما يبدو سيُغمى عليّ، أنا لست على ما يرام، إنني أُحتضر.

ومما زاد الوضع سوءاً، سماع أصوات أنينٍ لامرأة حامل، أعتقد بأنّ دوامة الاهتزازات الشاقولية والعرضية هذه، ستساعدها في إنجاب طفلها على المقاعد الخلفية، أسأل الله الرحمة لي، والسلامة بالولادة اليسيرة لهذه المرأة المناضلة.

تنفست الصعداء، والذي أثلج صدري أكثر، نزول الشخص الجالس على الكرسي بجانبي تماماً.

جلست، نعم جلست وكأن هموم الدنيا قد أُزيحت عن كاهلي، صدق من قال على هذه الأرض ما يستحق الحياة، كالفوز بالجلوس على كرسي في هذه الظروف العصيبة مثلاً.

الآن أصبح الوضع أفضل، وأستطيع أن أُتابع مهام الحراسة الشخصية لنفسي، تفادياً من الوقوع في فخ ممارسي السحر وألعاب الخفة، المنتشرين في هذه الأماكن، حيث يرتكز مبدأ هذه الألعاب على سرقة أو(نشل) ما بداخل الجيوب من نقود أو أجهزة خليوية دون إعادتها لمكانها.

ثمة من يحدّق بي، أمعنت النظر وإذ بفتاة جميلة تقف في الجهة المقابلة، هل هي نظرات إعجاب برجولتي الخارقة التي أتاحت لي الجلوس على هذا العرش؟

أم إنها تحاول إيقاعي في شراكها لأتنازل لها عن مكاني؟

لكن لا، لن أستسلم بهذه البساطة، سأُشيح بنظري وأنتصر على نفسي مجدداً.

وبعد سلسلة هذه الانتصارات، اقترب الباص من مكان النزول، هيأت نفسي للجولة الأخيرة، وصوتٌ ما بداخلي نادى: قف، تهيأ، اقفز..

وأخيراً تفقدت أشيائي، وتأكدت من سلامتي، وشكرت الله على وصولي سالماً غانماً.

المصدر: خاص

بواسطة :

شارك المقال: