Saturday November 23, 2024     
00
:
00
:
00
  • Street journal

كيف عاد السلاح الروسي إلى الصدارة؟

كيف عاد السلاح الروسي إلى الصدارة؟

فارس الجيرودي

«إذا تحدثنا بصراحة فإن الصناعات العسكرية الروسية وكل إنجازاتنا التقنية في مجال التصنيع الحربي، لم تحظ لوقت طويل بالتقدير الموضوعي الذي تستحقه على مستوى العالم، حيث كانوا يعتبرونها كلها قديمةً وصدئة، وأن صواريخنا لا تطير، وحتى ليس هناك إطلاقاً سلاحٌ روسي  له قدرة على العمل الصحيح، إلا أن هذه الصورة تغيرت مؤخراً، وظهر للعالم بأسره أن روسيا هي دولة تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار وبشكل جدي» لخص هذا التصريح الصريح لـ "يوري بوريسوف" نائب رئيس الوزراء الروسي، حالة التغير الدراماتيكي الذي طرأ خلال العقد الأخير على مكانة السلاح الروسي في العالم، فبعدما قضت شركات تصنيع السلاح الروسي عقد التسعينات وبداية الألفية، تبحث عن سوق لمنتجاتها في دول آسيا وافريقيا الفقيرة، وصلنا اليوم إلى زمنٍ تضحي فيه دول حليفة تقليدياً للولايات المتحدة، باستقرار علاقاتها مع واشنطن، وتخاطر بتحمل عبء عقوبات اقتصادية أمريكية، كل ذلك مقابل الحصول على سلاحٍ روسي.

دول كبيرة وذات وزن استراتيجي في العالم، مثل تركيا عضو الناتو التي لم يسبق أن أدخلت إلى ترسانتها العسكرية سلاحاً من مصدر غير غربي، ضحت بفرصتها للحصول على أحدث طائرات الولايات المتحدة "الاف-35"، وبعقوبات أمريكية، كل ذلك مقابل الحصول على منظومة "الإس-400" الدفاعية الروسية، وهي المنظومة التي سعت وراءها أيضاً دولة مثل الهند كانت في الماضي سوقاً تقليدياً للسلاح السوفيتي، قبل أن تبدأ باستيراد السلاح الأمريكي منذ التسعينات، لتعود لإبرام صفقات السلاح مع روسيا، والتي تشمل توطين صناعات عسكرية روسية في الهند مثل رخصة تصنيع طائرة السوخوي 30 الاعتراضية.

 صفقات الحصول على رخص تصنيع السلاح الروسي اختارها العملاق الصيني أيضاً كوسيلة لتطوير تقنيات التصنيع العسكري الصينية، لكن دولاً عربية أخرى كالسعودية وقطر اختارت طريقاً آخر، إثر تنامي أهمية الدور الروسي في المنطقة العربية مؤخراً: إنه طريق إبرام صفقات سلاح مع الروس لغرض نيل الرضا و توطيد العلاقات مع دولة كبرى صاعدة ،وهي ذات أهداف صفقات السلاح الأميركي المبالغ في ضخامتها التي تبرمها تلك الدول مع واشنطن.

لكن ما هي العوامل الحقيقية التي أدت لتصاعد مكانة السلاح الروسي عالمياً؟ 

في الواقع تتحكم بسوق السلاح عوامل معقدة، فالسلاح وكما يقول الخبراء سلعةٌ لا يمكن التأكد من إمكانياتها إلا عملياً وعلى محك التجربة في ميادين القتال، فلا يمكن لحكومة مسؤولة أمام شعبها (يستثنى من هذا الكلام طبعاً إمارات و مشيخات الخليج) أن تتخذ قرار ابتياع  منظومة تسليحية تتكلف مليارات الدولارات، وتكلف صيانها والحصول على قطع غيارها عشرات الملايين، لمجرد أرقام توردها الشركة المصنعة عن قدرات تلك المنظومة، حيث يصنف السلاح من ضمن السلع الأكثر كلفةً في العالم.

لذلك وبدءاً من حرب الخليج الثانية عام 1991 (عملية عاصفة الصحراء) التي شنتها الولايات المتحدة لطرد العراق من الكويت، عملت الآلة الإعلامية والدعائية الضخمة التي تمتلكها الولايات المتحدة على استثمار الحروب الغير متكافئة التي خاضها الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان والصومال والبوسنة والهرسك وكوسوفو، وذلك بهدف الترويج لقدرات أسطورية للسلاح الأمريكي، في مقابل تقليل مبالغ به لقدرات السلاح الذي تصنعه موسكو، مع تجاهل حقيقة أن جميع الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة إنما كانت ضد جيوش دولٍ من العالم الثالث، أوحتى ضد ميليشياتٍ، جميعها تمتلك نسخاً متقادمة أو تصديرية من السلاح السوفيتي في مقابل أحدث نسخ السلاح الأمريكي.

ويمكننا أن نعتبر حملة الترويج التي شنتها قناة الـ"CNN" ولاحقاً أفلام هوليود لمنظومة "الباترويت" نموذجاً عن ذلك، وكانت المنظومة المخصصة أصلاً للدفاع ضد الطائرات قد استخدمت لمحاولة اعتراض صواريخ "السكود" التي أطلقها العراق ضد دول الخليج وإسرائيل، و تم إقناع العامة بأن صواريخ باتريوت تعمل بأداء قريب من المثالية، وبأنها تمكنت من اعتراض ما بين 45 و47 صاروخ سكود، بعدها بفترة عدل الجيش الأمريكي من تقديراته لتنخفض إلى 50%، ثم قالت تقارير له بعد ذلك إنه يثق في ربع الحالات فقط، بعد فترة لاحظ أحد موظفي خدمات أبحاث الكونغرس أنه إذا طبق الجيش تقديراته بشكل منهجي سليم فسوف يكون الرقم أقل بكثير «يُقال إنهم أسقطوا صاروخ سكود واحد فقط وكان الصاروخ فاسداً».

فوفقاً للتحقيقات التي أجرتها لجنة "الكونغرس" بخصوص العمليات العسكرية الأمريكية خلال حرب الخليج الثانية، ما من دليلٍ على حدوث أي اعتراضاتٍ للصواريخ العراقية، التي لم تلحق خسائر كبيرة بين صفوف الإسرائيليين ليس بسبب إسقاطها قبل وصولها أهدافها، بل لأن العراق أضطر لتعديلها وتخفيف وزن شحنتها المتفجرة، بهدف زيادة مداها، حتى تصل إلى المدن الإسرائيلية، ويقول ملخص التقرير: «هناك أدلة قليلة على أن باتريوت أسقطت عدة صواريخ سكود أطلقها العراق في حرب الخليج، وهناك بعض الشك في أن تكون هذه الاشتباكات قد حدثت بالفعل».

بعد هذا التقرير دعا البنتاغون لرفع السرية عن مزيد من المعلومات بشأن أداء صواريخ باتريوت، وطالب بتقييم مستقل للبرنامج لم ير النور أبدًا نتيجة حملة ضغط من الجيش وشركة "رايثون" المنتجة للصواريخ، والتي أنتجت بدءاً من حرب الخليج الثانية نسخاً مطورة للباتريوت ادعت أنها متخصصة في اعتراض الصواريخ البالستية.

وكما كانت مواجهات الشرق الأوسط العسكرية في الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات الميدان الذي أثبت للعالم تفوق السلاح الغربي على نظيره السوفيتي، كانت هذه المنطقة أيضاً ميداناً لمواجهات عسكرية بدءاً من تموز 2006 قلبت الصورة وأعادت لسوق السلاح الروسي مكانته التي يستحقها موضوعياً، لقد دخلت إسرائيل حربها في تموز من ذلك العام، معتمدةً (إلى جانب تفوقها الجوي الكاسح) على أسطولها من دبابات الميركافا التي اعتبرتها فخر الصناعة الإسرائيلية، والدبابة الأكثر تدريعاً وحمايةً للجنود في العالم، لكن الميركافا تحولت إلى مجرد تابوت متنقل في مواجهة صواريخ الكورنيت الروسية التي ابتاعتها سوريا منذ التسعينات، وزودت بها مقاتلي حزب الله، قبل فترة وجيزة من حرب تموز.

 ويمكننا أن نعتبر معركة "وادي الحجير" النقطة المفصلية التي تحطمت عندها أسطورة "الميركافا"، وأطلت أسطورة الكورنيت، فقد زجت القيادة العسكرية الإسرائيلية بـ90 دبابة ميركافا في هذه المعركة، وأعطت الضباط الميدانيين مهلة 60 ساعة لإتمام المهمة، والسيطرة على وادي الاستراتيجي والمرتفعات المطلة عليه، لكن النتيجة كانت مفجعة، فلم تنج من أصل الدبابات الـ90 ألا أربع دبابات، بينما تم تدمير أو تعطيل الباقي،  أحد المحللين العسكريين الإسرائيليين سمى هذه المواجهة بـ«الحرب الكبرى داخل الحرب الكبرى»، أما أحد جنود طواقم الدبابات الذي شارك في المعركة فقد وصفها بقوله: «جهنم، الجحيم و لا شيئ آخر، أنا لم أصدق أنني سأخرج من هناك، أنت ترى الموت بناظريك و تصافحه، فطوال الوقت كان هناك إطلاق نار وإطلاق صواريخ مضادة للدبابات، كانت هذه نار الجحيم ولا تعرف متى ستطالك وفي سرك تصلي لأن تنتهي».

إثر حرب تموز ألغت كل من تركيا والهند والصين وجنوب افريقيا صفقات مع إسرائيل لابتياع الميركافا، التي تحولت من أغلى دبابة في العالم، إلى مجرد دبابة ثقيلة الوزن، بينما صعدت مبيعات السلاح الروسي حول العالم بشكل قياسي، كما شهد قطاع غزة مواجهات ناجحة تالية  للكورنيت ضد الميركافا، خلال الحروب التي شنتها إسرائيل على القطاع المحاصر أعوام 2008 ،2012 ،2014.

وكانت الحرب السورية النقلة النوعية الأخرى التي قفزت بمكانة السلاح الروسي، فقد استغلت روسيا دخولها ميدان الحرب بدءاً من العام 2015 لاستعراض أحدث ما أنتجته من التكنولوجيا العسكرية، سواء المنظومات التي استخدمها سلاح الجو الروسي في سوريا لقصف المجموعات المسلحة التي كانت تقاتل الدولة السورية بدعم غربي واقليمي، أو المنظومات التسليحية التي تم تزويد القوات السورية الحكومية بها، والتي استخدمت إما في المعارك البرية ضد الميليشيات الإرهابية مثل دبابات "تي"90  الحديثة المزودة بنظام تشويش وتضليل الصواريخ المضادة للدبابات من طراز "شتورا"، أو المنظومات التي استخدمتها قوات الدفاع الجوي السوري في صد الغارات الإسرائيلية والهجمات الصاروخية التي شنتها كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ضد المواقع والمطارات العسكرية السورية، وهي بشكل رئيسي نظاما "البانتسير" و"البوك ام 2" اللذان صدا معظم صواريخ كروز المجنحة، وسجل لهما النجاح في حماية المطارات السورية، حيث لم يسجل خروج مطارٍ واحد عن العمل،  بالإضافة طبعاً لمنظومة "الاس 200" السوفيتية القديمة التي نجحت في اسقاط طائرة إسرائيلية حديثة من نوع "إف 16" فوق فلسطين المحتلة في 10 شباط عام 2018.

كما تكفلت حملة الضغوط الإسرائيلية المكثفة التي شنتها كل من تل أبيب وواشنطن على موسكو بهدف منعها من تزويد الجيش السوري بمنظومة "إس 300" بتسويق هذه المنظومة ونظيرتها المشتقة منها "إس400"، حيث تترقب المؤسسات العسكرية حول العالم اليوم، نتائج المواجهة المحتملة بين سلاح الجو الصهيوني والدفاع الجوي السوري الذي تسلح بالـ"إس " 300 أخيراً.

هكذا أعادت المواجهات التي خاضها أطراف محور المقاومة مكانة السلاح الروسي، تماماً مثلما منحت إسرائيل للسلاح الأمريكي سمعته المرعبة خلال حرب الأيام الخمسة ضد الجيوش العربية عام 1967.

 

 

 

 

المصدر: خاص

بواسطة :

شارك المقال: