جرعة إنترنت زائدة
بديع صنيج
«كم مرّةً قُلتُ لكِ يا أمي إنني لن أبقى أكثر من عشر دقائق مشغولاً بالإنترنت، فلا داعي لأن تُذكِّرينني بذلك كلّ نصف ساعة»، لم تعد العبارة السابقة مُجرّد لعبة كلامية أطلقها أحدهم للتعبير عن سطوة وسائل التواصل الاجتماعي، وهي ليست صورة ما بعد حداثوية فرضها فهمٌ خاصٌ للزمن منذ بداية الألفية الثالثة، بل باتت «فلسفة حياة» لدى مُعظَم من يقومون بما يُسمّى «ركوب أمواج البحر الافتراضي»، وهو التعريف الرومانسي لعملية الـ«Net Surfing»، التي تعني حسب قاموس أوكسفورد «التنقل من موقع إلكتروني إلى آخر من دون هدف».
كُنت في بداية عهدي بالإنترنت أضحك من صورة كاريكاتيرية تُظهر هيكلاً عظمياً في القبر يتصفح الإنترنت على «شاهدته»، لكنني لم أتوقع أن يتحوَّل ذلك الموات إلى مشهد يوميٍّ متكرّرٍ، فكثيرون منّا باتوا يغلقون حواسيبهم المحمولة، ويتوجّهون إلى أسرّتهم قاصدين النوم، لكنهم يصطحبون معهم أجهزة الموبايل الذكية، ويواصلون تواصلهم الاجتماعي، العاجل والهام والضروري بحسب «عبّود الكازية» في مسلسل «الخربة»، فهم يعدّون بقاءهم من دون اتصال بالإنترنت قضية كبرى، أو تصبح حالتهم على مستطيل الدردشة «offline»، أو -لا سمح الله- تضعف قوة الإنترنت، فيتقطّع الصوت أثناء اتصالاتهم على «الفايبر» و«الواتس أب»، كما لا يعد في إمكانهم تحميل صور الفيسبوك أو مشاهدة مقاطع اليوتيوب إلا بشقّ الأنفس، ولاسيما أنهم وقّعوا على البيان الافتراضي الذي أعلنوا فيه أن «الواقع هو الوقت المزعج بين النوم وتصفح الإنترنت»، حتى إن أحدهم أسرَّ لي بقوله: «سمعت أن إدمان الإنترنت بات مرضاً عقلياً مُعترفاً به رسمياً في وزارات الصحة حول العالم، ويجب على من يعاني منه الذهاب إلى مركز للعلاج النفسي.. صدّقني، لا مشكلة عندي في ارتياد ذلك المركز مادام يحتوي على شبكة واي فاي». فلا تستغربوا أصدقائي أن يُتْحِفنا المستقبل بـ«فصام الفيسبوك» أو «ذُهان اليوتيوب» أو «عُصاب الببجي» أو يكتب في شهادات الوفاة أن السبب هو جرعة زائدة من المخدرات الإلكترونية!
القصة لا تنتهي، للأسف، عند الجانب النفسي، بل تتعداها إلى «الرُّهاب» الاقتصادي، حيث جيوب المواطن هي المستهدف الأول على قائمة تُجَّار ما يُمكِن تسميته «البنية التحتية» لتخديم الموبايلات الذكية واللابتوبات وشبكات الإنترنت وخلافها، إذ إنَّك وبرفَّة عين واحدة قد تجد رصيد وحدات هاتفك انتهى، وأنت في عِزِّ متابعتك لمَشهد «يوتيوبي» خطر، وإن كُنت من أصحاب الخطوط لاحقة الدَّفع فإنَّ شبكات الاتصالات إن لم تُصدِّع رأسك بطَلَب مبالغ تأمينية، بسبب استهلاكك الزائد عن الحزمة التي تشترك فيها، فإنها ستُفاجئك، هذا إن لم تُسبِّبْ لك احتشاءً قلبياً من الدرجة الممتازة لهول قيمة فاتورتك «الإنترنتية» الخمس نجوم، أضف إلى ذلك أن الإدمان لا يتوقف على الاستخدام المُكثَّف لمُفرزات التكنولوجيا من برامج وتطبيقات وما هنالك، بل يتعداها إلى الرغبة المستمرة بتحديث أجهزة الموبايل و«التابات»، فلا تلبث أن تُعلن إحدى شركات الهواتف عن جديد إصداراتها حتى ينتشر الخبر كالنار في الهشيم بين من أُسمِّيهم «مُحبِّي الإصدارات الأخيرة». واللافت أن مسؤولي التسويق في تلك الشركات ومستشاريهم التقنيين دائماً يتركون ثغرة في إنتاجهم الجديد، بحيث تبقى الرغبة مُلحة لدى الزَّبائن بالاستزادة من منتجاتهم، مع عدم قناعة تامَّة بآخر ما اقتنوه منها بحيث يكونون نَهِمين باستمرار، ولا يُمكِن أن يُشبِع نهمهم إلا التُّراب أو العِلاج النَّفسي بأن التكنولوجيا خُلِقَت لتَخْدِمَنا، لا لنَخدِمها، ونَخدمَ أصحاب الاستثمارات الكبيرة المُتعلِّقة بها!.
المصدر: خاص
شارك المقال: