جمهورية «أبو الزوز» في تاكسي
كريم مهند شمس
الرابعة صباحاً بتوقيت اعتق حجرٍ في أزقة المدينة القديمة، زاوية منسية على هامش الوطن اختارها سائق سيارة أجرة كهل لتكون معقله المؤقت ريثما يجد زبوناً نالت منه أقداح "الفودكا" بما يكفي ليدفع أي مبلغ يُطلب منه.
ولأنه سائق قليل حظ، كنت أنا ذلك الزبون المنشود، فلا أقداح أثقلتني ولا سكرة الحب باتت تطالني، ولا حتى هاجس الوقت المتأخر سيجعلني أدفع، فلست أمانع المشي أبداً، بل وربما يكون خياري المفضل بحثاً عن الوحدة بعد يومٍ طويل، وإن كان منزلي يبعد عشرات الكيلومترات.
سؤالي عن الأجرة كان أول ما أقوله له لأبدو صعب المراس قليلاً في وقت كهذا، ولكنه أكد لي فوراً أنها حيلة مكشوفة سبق وأن مرّت عليه بعدد تجاعيد وجهه، مجيباً: "أنت غني ولا فقير؟ لأنو الدفع بسيارتي عحسب قديش معك مصاري".
وللحق فإن "أبو الزوز" كما يحب أن يسمي نفسه غلبني مرتين، الأولى لأنه جعلني أخجل من مجادلته بأي مبلغ سيطلبه، والأخرى باختصاره في جملته تلك نظاماً اقتصادياً كاملاً يصلح لحل أية أزمة اقتصادية نعيشها مهما تكن معقدة.
فتخيل مثلاً لو أن أغنياء بلادنا يدفعون ثمن فنجان القهوة بقدر ما يملكون وندفع نحن بقدر ما نملك، والله لما خرجت بحياتي من مقاهي الطبقة المخملية، التي لن تبقى موجودة أصلاً إذما طُبقت مبادئ "أبو الزوز" الاقتصادية.
وتابع العجوز الستيني تفنيده لشتى شؤون البلاد دونما اكتراث حقاً لعدم إجابتي على أيٍّ من أسئلته، حتى أنه قرر مشاركتي كل خططه الإدارية وحلوله الخدمية التي كان ليطبقها لو كان بمكان أي مسؤول، والغريب أنه كان يقدم حلول منطقية فعلاً وينتقد بدقة سلوك أشخاص متنفذين محددين دون أن يعرف اسمهم الكامل حتى.
معلناً لي وكأنه يشرح خطته الانتخابية أن أول خطواته ستكون توزيع "القضامة" على كافة مسؤولي البلاد، ومبرراً ذلك بأنه يتعاطف مع شعورهم بالملل خلال كل اجتماع يعقدونه وهم يعلمون أنهم لن يطبقوا كلمة مما ورد فيه.
وفيما اكمل سرد خططه المستقبلية، بدأت أتخيل شيئاً فشيء سيارة الأجرة هذه على شكل بلاد منفصلة أسسها "أبو الزوز" وتسلم زمام الأمور فيها، ليطبق في عاصمتها كرسي السائق كل تلك الأنظمة الاقتصادية والإدارية التي يتمنى أن يراها في مسقط رأسه.
وكأول مواطن في بلاده تلك، منحني مباشرة عدة امتيازات كان أولها حرية التعبير والانتقاد لأي قرار يطرحه، بل وأعطاني أيضاً فكرة هذا النص متنازلاً عن كافة حقوق الملكية الفكرية، وقال متعجباً: "ليش بحقلنا نحكي هالحكي برا السيارة؟ إذا فيك كتبو بمقالتك بركي بتاخد فرق يلي رح تدفعن.. لأنو وصلنا".
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: