إلى ذلك الفقد فينا.."متلك متل الوطن" !
ريم السمان
كان صغيراً.. في التاسعة من العمر حين رأى طلقة تمر من أمامه، حينها فقط أدرك أن حياته القادمة ستكون بعمر رصاصة.
هو ليس ذكراً بل أنثى اعتادت القسوة في ربيعها حتى صارت أشبه برجل بلا شاربين، أمنياتها في الحياة أن تتشبه بضلع والدها المتشبع بالخشونة والمُجبل على الرأفة، والدها الذي يبكي في الليل سراً وفي الظلماء قهراً من تعب الأيام ولا يرى دموعه أحد.
هي ابنة الحجر الأسود مدعية القوة، جابت البلاد طولاً وعرض حباً بالتعلم، بدأت خطواتها الأولى حافية بين الدوالي تتعمشق خلف شرنقة قز تنسج خيوطها الأخيرة لتولد منها فراشة.
كانت تتعجب لكل شيء كسخونة الشمس على أرجلها وهي فوق التراب أو مذاق (رب البندورة) المقدد تحت سخونة السماء أو مغيب الشمس في بحر السراب، كل يوم يمر أشبه برواية لها.
كبرت الطفلة وتعلمت الفقد..
خبر وفاة جدتها كان أشبه بالطعنة الأولى لكنها رغم ذلك لم تبك (فالرجال لا يبكون)، والكبرياء سيد المواقف عندها.. سنواتها التسع لم تقف حاجزاً بين ما تشعر به وما تعتريه من قسوة، كتمت صدمتها بصمت وتعلمت فن الحقد على الحياة.
"سأسبق الحياة بخطوة كي لا أحزن"
هذا ما ظنت نفسها قادرة عليه، وفعلاّ بدأت بالتجربة، نكهة جديدة للحياة كما لم تتذوقه من قبل هي أشبه بالخسارة وادعاء نصرِ بطعم المرارة، واجهت وتحدت ..كانت كل الظروف تقول لها أنها لن تستطيع الوصول، ورغم ذلك وصلت (إن لم تكن النهاية).
هي الآن في العشرينات من عمرها لكنها حتما بقلب التسعين، جلدتها سبع سنوات من الحرب وحبٌ بعمر أول مظاهرة خرجت وآخر قذيفة وقعت في زواريب دمشق، عشقها هذا علمها الفقد أكثر من كل شيء، فأن تحب شخصا ليس لك هو حرب بحد ذاتها، وأن تمتلك أفكاراً لا تشبه الآخرين أيضاً معركة تؤخذ بالحسبان، ولكن أن تقع بين نار الأب ونار الحبيب هذا ما لم تقدر الأيام على حلّه.
خانها حبها الأول وأيقنت درساً جديد..
معركتها في دمشق علمتها الكثير كمن يعطي كل ما يملك يحترق قبل الجميع "مثله مثل البارود"، هذا الشخص هو كمين مُلغّم يبتلع كل الأتربة ويظل ساكناً إلى أن يقترب منه أحد وقتها لن يميز عدو من صديق، وكم من الصعب أن تنهي حياة من تحب بدون قصد لتكتشف أن كل ذلك من أجل مبدأ قد يُباع ويُشترى، قتال على اللاشيء تحسبه قتال من أجل "الوطن"، ظاهره شرف وأخلاق.. باطنه حسابات أخرى.
يومها جاء رجل على هيئة قرار، "متله متل الوطن" سرق شريط طفولتها من لحظة مشيتها الأولى وحضنها الأول وخيوط الشمس الأولى في بؤبؤ عينها الأسود، سرق ما بقي من زوايا معركتها من حب، جنّدها باسم الشرف واسم الذود عن الحمى، لتصبح هي الفقد ... كل ما تلامسه يفنى كالرماد.
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: