حين تُرمى العظام لـ مسعور تل أبيب
محمود عبد اللطيف
خلال معارك ريف دمشق الجنوبي الغربي، والذي كانت تنتشر فيه الميليشيات المسلحة المدعومة من الكيان الإسرائيلي بمركز ثقل أساسي ضمن بلدة "بيت جن"، جرت معركة بدون تدخل الطيران الحربي، في جغرافية تتصف بالوعورة وصعوبة تقدم القوات البرّية من غير الطرق الزراعية الموجودة في المنطقة، وحين تدخل الطيران المروحي، أسقطت مروحية سورية بتاريخ 1-12-2017، بصاروخ اطلق من داخل أحد الأودية الواقعة إلى الغرب من "بيت جن"، بما يشير إلى تدخل إسرائيلي حينها لإنقاذ الميليشيات وعرقلة العملية، لتبدأ القوات عملية ضغط برّية بدون المروحيات، واعتقد الكل يذكر صعوبة المعركة في تلال البردعيا، ومن بعدها التل المقتول، وعلى هذه التلال ارتقى عدد كبير من الشهداء.
حين بدأ الجيش تحركه في الجنوب من الخاصرة الشمالية الشرقية لريف درعا، كان العمل الروسي محصوراً بالسياسية في الجبهة الشمالية الغربية للجنوب، وتحديداً في القرى القريبة من شريط الفصل مع الجولان السوري المحتل، هناك، كان من الممكن أن تستمر المعركة طويلاً لولا تحصيل الروس لموقف إسرائيلي تخلت بموجبه تل أبيب عن الجدار العازل الذي بنته من تواجد التنظيمات المسلحة وعلى رأسها جبهة النصرة في المنطقة، بمركز ثقل أساسي في "جباتا الخشب"، التي فتحت آليات العدو الإسرائيلي في وقت ما طريقاً مباشراً لها، كما إن إسرائيل أجلت عناصرها وعناصر "الخوذ البيضاء" إلى الأراضي المحتلة.
في المفاضلة ما بين سوريا وإسرائيل من وجهة النظر الروسية، ستكون الكفة تميل لسوريا لكونها الحليف المضمون الوحيد بالنسبة للروس في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وذلك لكون دمشق الوحيدة التي منحت الروس ومنذ ما قبل الأزمة السورية إمكانية إقامة قاعدة إمداد لسفنها الحربية في المياه الدافئة، ويعدّ الأمريكيين الأكثر قرباً لكل دول حوض المتوسط من روسيا، فحتى مصر انخفضت مستوى علاقاتها العسكرية مع الاتحاد السوفيتي ومن ثم موسكو بعد رحيل عبد الناصر.
الحديث عن صفقات أسلحة روسية لتل أبيب في المستقبل يعتبر ضرباً من الخيال، قد تكون تل أبيب مهتمة بتقوية علاقاتها مع موسكو أكثر من اهتمامها بالسلاح الروسي، إذ أنها تحصل على أفضل أنواع الأسلحة الأمريكية منذ اتفاق سيناء 2 الذي سبق توقيع معاهدة "كامب ديفيد"، وإن كانت تحتاج لمعونة في بناء منظومة دفاع جوي قصير المدى لمواجهة خطر صواريخ المقاومة الفلسطينية كهدف أولي، لتطوير سلاحها في مواجهة الترسانة الصاروخية لحزب الله، فإن الروس لا يمتلكون القدرة على مثل هذه المنظومة ولا أي دولة أخرى، ذلك أن صواريخ المقاومة تعبر من الصورايخ البدائية صعبة الملاحقة لكونها تحلق بطريقة تختلف جذريا عن الصواريخ الاعتيادية التي تمتلكها الجيوش النظامية، وملاحقتها أمر صعب، والدليل أن "القبة الحديدية"، و "مقلاع داوود" المنظومتين اللتين تتفاخر بها إسرائيل تسقط في كل اختبار لها أمام صواريخ المقاومة.
وفقا لما تقدم، فإن النظرية التي تقول أن "روسيا غير مضمونة في التحالف" أو إنها "خانت التحالف مع دمشق" لقيامها بتسليم عظام جثة الجندي الإسرائيلي الذي كان مدفونا في مخيم اليرموك، ليس منطقيا، إلا أن الأمر له عدة احتمالات يمكن الوقوف عليها لفهم ما الذي تفكر فيه روسيا وهذه الاحتمالات من وجهة نظر شخصية تأخذ ما يلي:
أولاً: إن صدقت الإدارة الأمريكية وانسحبت من منطقة الشرق الأوسط عسكرياً، فإن ذلك سيعطي الروس فرصة للعب الدور المحوري في ملفات المنطقة وتفكيك ألغامها السياسية القابلة للانفجار، والبحث عن إحياء المفاوضات غير المباشرة ما بين دمشق وتل أبيب بواسطة روسية سيحتاج لإجراءات تبادل للثقة، ربما يحتاجها الإسرائيلي من موسكو أكثر مما تحتاجها دمشق التي تثق بالحليف الروسي، وعلى ذلك يفهم من الإعلان الروسي عن تسليم بقايا جثة الجندي الإسرائيلي والاحتفاء بالحدث من الطرفين بهذه الصورة، يعني أن موسكو تحاول جذب بنيامين نتنياهو بقدر الإمكان ليذهب نحو مفاوضات سلام وفقاً للقوانين الدولية، مع الملاحظة هنا أن رئيس الحكومة الإسرائيلية ضمن تقريبا الفوز في الانتخابات القادمة على منافسيه بأوراق قوية جداً، أبرزها "الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، والاعتراف الأمريكي بالاحتلال الإسرائيلي للجولان"، ومن ثم "جثة أحد قتلى الجيش الإسرائيلي في اجتياح لبنان.
ثانياً: أعلنت الحكومة السورية صراحة أنها لن تقبل بانسحاب القوات الإيرانية وحزب الله من الأراضي السورية إلا بقرارها هي، وطالما إن الرئيس الأسد يرى أن الوجود الإيراني مرحب به في الداخل السوري، فإن ذلك يعني بالنسبة لتل أبيب تهديداً لما تسميه بـ "أمنها القومي"، وهذا يعني بالضرورة الذهاب إلى المزيد من الاعتداءات على الأراضي السورية من قبل العدو الإسرائيلي بحجة الوجود الإيراني، ولأن موسكو مهتمة بقطاف الثمار الاقتصادية للحرب السورية سريعا من خلال الاستثمار في الثروة المعدنية وإعادة الإعمار، فإن الوصول إلى "انضباط إسرائيلي" بالقانون الدولي سيكون مهمة صعبة تواجه حلفاء سوريا، وعليه على موسكو أن تقدم بعضاً من الترضية لـ "تل أبيب"، التي تجد في استمرارية الحرب في سوريا ضمانة لأمنها من أي مواجهة مفتوحة مع الجيش السوري الذي بات متمرسا على القتال البرّي في مختلف الظروف، وقد تكون خطوة تسليم جثة الجندي الإسرائيلي مقدمة لاتفاق ما يلزم كيان الاحتلال الإسرائيلي بالتزام الهدوء خلال المرحلة القادمة لتوفير مناخ مناسب لإنهاء الحرب في سوريا، مع التذكير أن لإسرائيل نفوذها على القرار الأمريكي وأن واشنطن تلتزم بالبقاء في "بلدة التنف" على سبيل المثال لضمان عدم حدوث أي تواصل برّي بين العاصمتين السورية والإيرانية، خوفا من نقل السلاح الإيراني إلى حزب الله عبر القوافل البرّي ما سيوفر جهداً استخباريا على إيران وسورية في نقل هذه الأسلحة سواء عبر الجو أو البحر، ولنقف على تزامن وصول 1500 من سكان "مخيم الركبان" إلى "معبر جلغيم" في عمق البادية السورية مع تسليم جثة القتيل الإسرائيلي، وإذا ما أرادت موسكو تفكيك "مخيم الركبان" فإن ذلك يعني ضرورة الانسحاب الأمريكي لاحقا من "التنف"، لكون هذه المخيم يشكل جدارا بشريا يعزل القاعدة الأمريكية عن مناطق الجيش السوري في البادية، وإنهاء هذا الملف سيعني بالضرورة عودة الطريق المعروفة باسم "دمشق – بغداد" إلى الحياة ما سينعكس إيجابا على الصناعة السورية بكون السوق العراقية هي أكبر الأسواق القريبة للتصريف ناهيك عن عائدات تجارة الترانزيت، وهذه طريق لم تستخدم من قبل القوافل التجارية الإيرانية حتى في زمن ما قبل الحرب السورية، لأن العلاقات الإيرانية العراقية لم تتحسن إلا بعد دخول الاحتلال الأمريكي إلى العراق الأمر الذي حول صحراء الأنبار وغرب العراق عموماً إلى مقر للقاعدة.
ثالثا: وكالة الأنباء الرسمية السورية "سانا"، نقلت عن "مصدر إعلامي"، نفي علم الدولة السورية بوجود جثة الجندي الإسرائيلي في الأراضي السورية، وبأنها ليست على علم بعملية التسليم التي نفذها الروس، هذا يعني أن القوات الروسية حصلت على جثة القتيل الإسرائيلي من طرف ثالث، ربما يكون من الجماعات المسلحة قبل أن تغادر المنطقة وفقاً للاتفاق الذي عقد في "مخيم اليرموك"، والذي أجلي بموجبه عناصر من تنظيم "جبهة النصرة"، إلى الشمال السوري، حينها كان الاتفاق مرتبط بـ "كفريا و الفوعة"، اللتين كانتا محاصرتين من قبل النصرة وحلفاءها في ريف إدلب، وهذا يضع أن المفاوض الروسي كان قد طلب من المسلحين وبشكل سرّي الحصول على جثث القتلى الإسرائيليين، هنا لا بد من التذكير بأن إنهاء ملف جنوب دمشق عسكرياً جاء سابقاً لملف الجنوب السوري بثلاث أشهر على الأقل وهو الوقت الذي كان الروس يفاوضون إسرائيل على رفع يدها عن ميليشيات الجنوب لإعادة سيطرة الدولة السورية عليه، ما يعني أن تل أبيب قد اشترطت على الروس الحصول على جثث قتلاها، ولربما لعبت حادثة إسقاط الطائرة الروسية في 18 أيلول قبالة سواحل مدينة اللاذقية بسبب تستر المقاتلات الإسرائيلية الفارة من الصواريخ السورية حينها، سببا في تأخير عملية التسليم، وهذه الـ "قد"، منحت الروس فرصة للاستفادة من جثث القتلى مرة أخرى في ملف قد لا يكون متعلق بالشأن السوري، وقد تبين لـ "تل أبيب"، أن جثة واحدة من الجثث الثلاث التي بحوزة موسكو هي لقتيل إسرائيلي، والخطأ الحاصل في الجثتين الأُخريين، يؤكد أن دمشق لم تكن على علم بـ "سرقة الجثث" أصلا، وإلا لكانت الجثث الثلاث هي للقتلى الإسرائيليين.
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: