Wednesday May 15, 2024     
00
:
00
:
00
  • Street journal

فنزويلا: ما سر الفشل الاقتصادي؟

فنزويلا: ما سر الفشل الاقتصادي؟

فارس الجيرودي

نشهد في فنزويلا تطبيقاً لنموذج إيصال البلاد إلى حالة من العزلة والحصار والمجاعة، تمهيداً للانقضاض عليها، وهو ما سبق وتكرر ما يشبهه في كل من العراق وسوريا وليبيا، حيث تم تصنيع حالة إنسانية مأساوية حتى يتاح استخدامها لشن الحملات الإعلامية والسياسية التي تبرر التدخل الخارجي، فيصبح كل من يرفع صوته منادياً باحترام القانون الدولي ومعارضاً التدخل الأمريكي، خارجاً عن سياق المنطق والعقل، ومتجرداً من الشعور الإنساني الطبيعي.

ففي حالة فنزويلا ذات النظام الليبرالي التعددي، والتي فشلت المعارضة الموالية لواشنطن في تحقيق الفوز بأي انتخابات رئاسية فيها منذ 20 عاماً، تعذّر استخدام حجة الاستبداد والديكتاتورية، فكان الفشل الاقتصادي هو البديل الذي استعيض به لتبرير محاولات السطو الأمريكية على استقلال فنزويلا، وسيادتها على ثرواتها الوطنية.

قد يجادل البعض بأن فنزويلا تمتلك أكبر احتياطي من النفط في العالم، وبأن العقوبات و المقاطعة الاقتصادية بحقها لم تبدأ إلا بعد ما عرف بـ"اجتماع دول ليما" في آب من العام 2017، بالتالي ليس هناك من ذريعة تبرر حالة الفشل الاقتصادي المريع التي وصلت  إليها، سوى سوء الإدارة الحكومية لثروات البلاد الضخمة، لكن التدقيق في الحالة الفنزويلية يظهر أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية لم تكن سوى المرحلة الأخيرة من مراحل الحرب الاقتصادية التي شنتها واشنطن ضد كراكاس، والتي استهدفت صناعة النفط فيها، وأدت بالنتيجة إلى خفض عائدات البلاد من تصدير النفط اليوم إلى 20% فقط مما كانت عليه في عهد الرئيس السابق "هوغو تشافيز"، مما ألحق ضربة قاصمة بالاقتصاد الفنزويلي المعتمد على تصدير النفط بنسبة 96%، وفيما يلي أبرز الخطوات الأمريكية التي أدت إلى خنق الاقتصاد الفنزويلي:

1- أوعزت الولايات المتحدة للسعودية بدءاً من العام 2014 بإغراق سوق النفط العالمية بالإنتاج، وذلك بهدف إلحاق الأذى بكل من روسيا وإيران اللتين اختارتا موقفاً مسانداً للدولة السورية في الحرب التي دعمتها واشنطن وحلفاؤها الإقليميون لإسقاط دمشق، وطبعاً كانت فنزويلا أحد المستهدفين بالمعية من عملية ضرب أسعار النفط، التي أدت بالنتيجة إلى انخفاض سعر برميل النفط خلال النصف الثاني من العام 2014 إلى 45% فقط من متوسط سعره خلال السنوات الخمس التي سبقت الخطوة السعودية، مع العلم أن انخفاض سعر برميل النفط ألحق أضراراً جسيمة بالاقتصاد السعودي نفسه، وليس فقط باقتصاديات الدول التي تعاديها واشنطن.

2- كثيرون لا يعرفون عن التركيبة الاجتماعية لفنزويلا، لذلك لا يفهمون لماذا تقف كل النخب من رجال أعمال وأطباء ومهندسين وأساتذة جامعيين، بما في ذلك التقنيون العاملون في صناعة النفط، ضد تشافيز وخليفته مادورو، فالمجتمع الفنزويلي يتشكل من أكثرية من السكان الأصليين الملونين، وأقلية بيضاء جاءت مع الاستعمار والاستيطان الاسباني للبلاد، وفيما ينتشر الفقر والجهل بين الأكثرية من سكان البلاد الأصليين، تنتمي معظم النخب المتعلمة إلى العرق الأبيض، وهم مرتبطون تاريخياً بالولايات المتحدة، التي تعتبر دول أمريكا اللاتينية بمثابة الحديقة للبيت الأمريكي، لذلك عندما وصل تشافيز للسلطة  لأول مرة عام 1998 كان 50% من المواطنين في بلاده تحت خط الفقر المدقع، و80% منهم فقراء، بينما كانت دخل البلاد النفطي يقدر بـ850 مليون دولار في الشهر، لكن المستفيد من هذه العائدات الضخمة كان فقط النخبة البيضاء المتعلمة، والتي كانت تختار المصارف الأمريكية لإيداع ثرواتها الضخمة، لذلك حاول تشافيز أن يحدث نقله اجتماعية ضخمة من خلال التركيز على رفع مستوى معيشة الأكثرية من سكان البلاد الأصليين، من خلال تأميم النفط وإعادة توزيع عائداته على المواطنين مباشرةً، فقام بحملة للقضاء على بيوت الصفيح، ودعم حق التعليم والعلاج المجانيين، مما أحدث رد فعلٍ عنيف من قبل النخبة البيضاء التي اعتبرت سياسات تشافيز تهديداً مباشراً للامتيازات التي تمتعت بها لقرون طويلة، وبالتالي لم تعد المواجهة خارجية مع الولايات المتحدة فقط، بل أيضاً داخلية مع النخب المتعلمة التي تتحكم بمفاصل الاقتصاد.

3- رغم وجود أكبر احتياطي نفط مؤكد في فنزويلا، إلا أن النفط الفنزويلي وعلى عكس نفط الشرق الأوسط، يقع معظمه على عمق كبير في باطن الأرض وفي المياه الإقليمية تحت البحر، مما يستلزم تقنيات متقدمة لاستخراجه، لكن شركات النفط الغربية ومنذ أقدم تشافير على تأميم صناعة النفط وتوزيع عائداتها على الفقراء، نفذت مقاطعة شاملة  لفنزويلا، وامتنعت عن تزويدها بتقنيات صيانة آبار النفط، بل إن شركة «ونوكو» الأميركية، و التي كانت تتولى إدارة جزء كبير من صناعة النفط في البلاد، قامت بالحجز على المصفاة الأكبر في فنزويلا في "كوراساو" والتي كان النفط يكرر فيها قبل تصديره، مما أدى إلى إيقافها عن العمل لفترة طويلة، بالتالي ليس هناك معنىً لامتلاكك احتياطات ضخمة من النفط ما دمت غير قادرٍ على استخراج معظمها، فحتى الاتحاد السوفيتي بكل تقدمه العلمي لم يكن قادراً على الاستفادة من جزء كبير من الغاز والنفط في مياهه الاقليمية.

4- تعاني بنية الاقتصاد الفنزويلي من حالة فساد مزمنة، وفي محاولته لتلافي صراع صفري «معركة حياة أو موت» مع معارضيه من الأغنياء في الداخل الفنزويلي، لم يتخذ تشافيز إلا إجراءات جزئية لمعالجة حالة الفساد تلك، بالتالي ورث مادورو جهازاً حكومياً تنخر فيه سوسة الفساد وتكاد تصل إلى العظم، مما أضعف بالتالي من قدرة الاقتصاد الفنزويلي على مقاومة الضغوط الأمريكية، وبالنتيجة النهائية وعلى نحو يشابه ما حدث في بلادنا العربية ثبت أن المستفيدين من الفساد الحكومي، هم أول من يقف في اللحظات الحاسمة مع طلائع الغزو الأجنبي القادمة من واشنطن، و أول من يوجه طعنةً في الظهر للنظام الذي استفادوا منه.

رغم السلبيات التي اكتنفت تجربة ما يسمى بـ«الثورة البوليفارية» والتي أسس لها تشافيز، واستكمل "نيكولاس مادورو" مسيرتها، إلا أن هذه التجربة لا تزال تحظى -حتى باعتراف أعدائها- بثقة الفقراء الذين يشكلون أغلبية سكان فنزويلا، فهي منحتهم الأمل للتمتع لأول مرة بثروات بلادهم وبتحقيق مستوى حياةٍ كريمة، فمثلاً صحيفة "الواشنطن بوست" وهي كمثيلاتها من وسائل الإعلام الغربية ليست محايدة فيما يتعلق بالصراع الفنزويلي، لكنها اعترفت رغم ذلك بأن المظاهرات ضد مادورو لا تجذب إلا أبناء الطبقة الوسطى فما فوق، فيا ما زالت الطبقة الفقيرة من سكان البلاد الأصليين متماسكة خلف الدولة، على الرغم من أنها أكثر من يعاني اليوم من حالة الاقتصاد المتردية، لذلك لا نتوقع أن تكون محاولة واشنطن لاسقاط «الثورة البوليفارية» رحلةً سهلة، فهي هناك تواجه حركةً شعبية من عشرات الملايين من الفقراء، وليس مجرد شخص تشافيز أو مادورو.  

 

      

 

المصدر: خاص

شارك المقال: