انفجار منبج: اختلفت السيناريوهات و النتيجة واحدة
فارس الجيرودي
أثار الهجوم الذي تعرضت له القوات العسكرية الأمريكية في مدينة منبج أمس، عاصفةً من التساؤلات حول الجهة المستفيدة، فاللافت في الانفجار الذي هز مطعماً اعتاد عسكريون أمريكيون ارتياده في منبج ليس فقط حجم الخسائر غير المسبوق: «4 جنود قتلى مع 3جرحى اعترف بهم بيان الجيش الأمريكي»، بل إن المهم أكثر توقيت الهجوم الذي جاء في حقبة ما بعد إعلان الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" الانسحاب من سوريا، والمعارضة الشرسة التي قوبل بها قراره في الداخل الأمريكي، وفي أوساط حلفاء واشنطن الأوربيين.
تم تنفيذ الهجوم في اليوم التالي لاتفاقٍ أعلنت مصادر تركية وأمريكية أن كلاً من أردوغان وترامب توصلا إليه من أجل إقامة منطقة آمنة شمال سوريا تفصل قوات "قسد" في شرق الفرات عن الحدود التركية، وتُجنِب حلفاء واشنطن هجوماً تركياً إثر الانسحاب الأمريكي الذي يعتزم ترامب تنفيذه.
وفيما قابلت "قوات سوريا الديمقراطية" الأنباء عن التفاهم التركيٍ-الأمريكي، ببيان اقترحت فيه أن تكون تلك المنطقة الآمنة تحت إشرافٍ أممي وبحضور قواتٍ دولية من الأمم المتحدة، لا أن تخضع لإدارةٍ تركية، فقد تباينت التحليلات بشأن من يقف فعلاً وراء انفجار مطعم منبج، رغم أن وكالة "أعماق" التابعة لداعش سارعت لتبني العملية فوراً.
فنهج التضخيم الإعلامي الذي اتبعته وكالة "أعماق" الناطقة باسم داعش خصم كثيراً من مصداقية تبني هذه الوكالة للعمليات الأمنية في كل من سوريا والعراق، حيث يبدو أن الضربات القاصمة التي تلقاها التنظيم خلال السنتين الأخيرتين والتي أدت إلى تهاوي دولة الخلافة، قد أجبرت القيادات الوسطى الهاربة في الصحاري والجبال على تبني أي عمليةٍ بهدف إثبات الوجود، إرضاءاً لقياداتهم من الصف الأول المتوارين في المدن والقرى ما بين العراق وسوريا، مع ذلك يبقى قيام أحد الخلايا الجهادية المتعاطفة مع داعش بالعملية احتمالاً منطقياً وقريباً لواقع الحال.
السيناريو الثاني الذي تم تدواله، قيام عناصر جهادية مرتبطة بالاستخبارات التركية بتنفيذ الهجوم، كرسالة تركية لواشنطن، حيث أعلن الرئيس التركي "أردوغان" سابقاً عن تأهب لاقتحام المنطقة عقب الانسحاب الأمركي، بذريعة تواجد عناصر حزب العمال الكردستاني فيها، وسط تحذيرات لأنقرة من واشنطن بعدم المس بالأكراد، وما يعطي لهذا السيناريو مصداقيته، وجود علاقة قديمة تجمع تركيا بداعش، فالتنظيم كان في فترة من الفترات يصدر معظم ما يسطو عليه من نفط وآثار سوريا والعراق عبر الأراضي التركية، ويؤّمن بواسطة ذلك معظم موارده المالية، كما كانت تركيا المعبر الرئيسي للجهاديين الأجانب من كل أنحاء العالم، والذين وصلوا إلى سوريا والعراق عبر المطارات التركية، وغذوا صفوف التنظيم بالمقاتلين، إضافةً لما سبق فإن الشائعات التي جرى تداولها عن وجود "ثامر السبهان" مسؤول الاستخبارات السعودية مع الجنود الأمريكيين وعناصر من "قسد" في المطعم الذي تم تفجيره، تعزز هذه الفرضية، وتضع الانفجار ضمن سياق في تصاعد الصراع التركي-السعودي في المنطقة.
بالمقابل تضعف من قوة هذا السيناريو، حقيقة ارتباط الاقتصاد التركي العضوي بالقرار الأمريكي، فالرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" استطاع في مناسبتين على الأقل إلحاق خسائر فادحة بالاقتصاد التركي، عبر استخدام أسلوب التغريد عبر "تويتر" فقط، ففي آب الماضي أدت تهديدات ترامب بخنق الاقتصاد التركي إلى انخفاض هائل في سعر صرف الليرة التركية، وأثمرت هذه التهديدات في النهاية خضوعَ تركيا، والإفراج عن القس الأمريكي "أندرو برونسون" المتهم بالمشاركة في التآمر لتنفيذ الانقلاب ضد أردوغان في العام 2016، كما أعاد ترامب الكرّة ثانيةً إثر رفض أردوغان استقبال مستشاره للأمن القومي "بولتون" بسبب تصريحاته المحذّرة لتركيا من عمليةٍ ضد الأكراد شرق الفرات، خلال زيارته الأخيرة لأنقرة، حيث أجبرت تهديدات ترامب الرئيس التركي على الاتصال به، ومن ثم الإعلان عن اتفاق المنطقة الآمنة، لذلك ونظراً إلى اعتماد النظام الأدروغاني على الانجازات الاقتصادية في تثبت شرعيته، وارتباط هذه الإنجازات بالقروض والاستثمارات الغربية التي تدفقت على تركيا بقرار أمريكي بعد العام 2002، فإنه من المستبعد بالنسبة لكثيرٍ من المراقبين أن تصل الجرأة التركية إلى حد تلويث اليد بالدم الأمريكي، فبالنسبة لهؤلاء المحللين، قرار من هذا النوع لا تجرؤ عليه إلا دولٌ من نوعية إيران وسوريا وكوريا الشمالية، وهي الدول التي تصنف دولاً مارقة، وفق المعاييرالأمريكية، وتتعرض سلفاً لصنوفٍ من الضغوطات والعقوبات والحرب الغير مباشرة من قبل واشنطن.
السيناريو الثالث، وقوف كل من دمشق وطهران وراء الهجوم، وذلك في ظل ما تسرب من أنباءٍ عن دعمٍ قدمته الحكومة السورية خلال الستة أشهر الماضية لعناصر عربية عشائرية شرق الفرات، من أجل تنفيذ عمليات مقاومةٍ ضد الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، والذي تعتبره الدولة السورية غير شرعي، وهي المعلومات التي كشف عنها "حسين مرتضى" مراسل قناة العالم الإيرانية في دمشق، والقريب من جهات مقررة سورية وإيرانية ومن حزب الله اللبناني، حيث كتب مرتضى في مقال له على موقع قناة العالم بتاريخ 12 -1-2019 عن إحصاء أكثر من عملية للمقاومة السورية شرق الفرات، منها استهداف دوريات تابعة للقوات الأميركية، وإطلاق صواريخ نحو دوريات لجنود الاحتلال الأميركي، وزرع عبوات ناسفة على طريق كانت تسلكه الآليات التابعة للقوات الأميركية، هذه العمليات بحسب مقال مرتضى «لم يتمّ الإعلان عنها، وهنا وصلت تقارير استخباراتية أميركية للبيت الأبيض، بعد اجتماع عُقد قبل حوالي ثلاثة أشهر، بين وفد استخباراتي وصل عبر معبر سيملكا الحدودي مع العراق الى منطقة القامشلي، والتقى بالقيادات العسكرية الأميركية، وخلص بالنتيجة إلى أنّ من وراء هذه العمليات هي مجموعات مدعومة من الدولة السورية، ذلك إثر دراسة طبيعة الأسلحة المستخدمة وتكتيك الكمائن والأهداف التي ضربت، وربطت هذه المعلومات مع موقف العشائر، والعرض العسكري الذي تمّ في ريف حلب، بالإضافة الى وجود عدد من المجموعات التي تمتلك أسلحة متطورة ويمكنها قصف القواعد الأميركية في أيّ لحظة، وعندها كان التقييم أنّ المرحلة القادمة ستشهد تصعيداً كبيراً من حيث استمرار وتطوير هذه العمليات العسكرية ضدّ جيش الاحتلال الأميركي، فبدأت الاستدارة الأميركية، التي تبلورت في قرار سحب القوات من سوريا».
يعزز هذا السيناريو ما كتبه السفير الأمريكي السابق في دمشق، والقائد الفعلي السابق لما سمي بالثورة السورية، "روبرت فورد"، في مقال له في "الشرق الأوسط" السعودية بتاريخ: 26 كانون الأول 2018، حيث رأى فورد أن قرار ترامب سحب القوات من سوريا صائب، وإن اختلف معه في طريقة إخراج القرار للعلن، حيث توقع فورد أن تلجأ كل من الحكومة السورية وحليفها الإيراني إلى دعم عناصر تنفذ عمليات ضد القوات الأمريكية في حال عدم انسحابها، فيما يشبه سيناريو عام 1983 ضد قوات المارينز في بيروت.
إذا صح السيناريو الأخير، فقد تكون الرسالة السورية مقصودة لجهة قطع الطريق على خطط استبدال جنود الجيش الأمريكي الذين سيتم سحبهم من سوريا، بعسكريين متعاقدين مرتزقة يعملون لصالح شركة "بلاك ووتر"، وهو حلٌ جرى تداوله بكثافة في مراكز صنع القرار الأمريكي، كبديل عن ترك حلفاء واشنطن من قوات "قسد" بلا سند، وبلا أوراق ضغط على دمشق، يستفيدون منها خلال المفاوضات التي يجرونها لإعادة المنطقة إلى سيادة الدولة المركزية السورية.
مهما كانت الجهة التي تقف وراء هجوم منبج، تبقى الحقيقة الوحيدة المؤكدة، هي أن الانفجار يصب في خانة دعم حجة الرئيس الأمريكي ترامب، الذي لا يرى أي مصلحة متأتية من زج الجنود الأمريكيين في البؤر الساخنة حول العالم، في ظل تهاوي النظام الذي كانت تبنيه الولايات المتحدة حول العالم، وتعول عليه من أجل قرن جديد تحكم فيه العالم عبر استخدام قوتها العسكرية.
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: