اليمن بعد سوريا وأفغانستان
فارس الجيرودي
أمس صادق مجلس النواب الأمريكي وبأغلبية ساحقة على مشروع قانون لسحب الجنود الأمريكيين من اليمن، ورغم ثانوية الدور الأمريكي المباشر في الحرب اليمنية، إلا أن الجهد العسكري الإماراتي- السعودي يحظى بدعم لوجستي أمريكي هائل، بما في ذلك مساهمة طيارين أمريكيين في قيادة الطائرات التي تقصف اليمن، ومشاركة المقاولين وشركات الأمن الأمريكية في حشد المرتزقة من كارتيلات المخدرات في أمريكا اللاتينية للقتال بأمرة السعوديين و الإماراتيين هناك.
لذلك يعتبر تصويت مجلس النواب الأمريكي، إشارةً سياسيةً بالغة الوضوح للطرفين الرئيسيين اللذين يديران العدوان على اليمن، تفيد بانتهاء المهلة السياسية الأمريكية المعطاة لهما لتحقيق إنجازات على أرض القتال، وذلك بعد تجاوز الكلفة السياسية والإنسانية للحرب العوائد التي يمكن تحقيقها من خلالها.
لكن التصويت الأمريكي على الانسحاب يأتي في سياق أكبر بكثير، سياقٌ يمكن أن نطلق عليه عصر الـ "Amerexit" «الخروج الأمريكي» من منطقتي غرب ووسط آسيا، فهو يتزامن مع مفاوضات تديرها واشنطن بين الدوحة وإسلام آباد مع حرطة طالبان، وافق خلالها الطرف الأمريكي على انسحاب كامل من أفغانستان مقابل تعهد "طالبان" بعدم إيواء الجماعات الإرهابية، وهو تعهد مطاط يبدو أن الغرض منه فقط حفظ ماء الوجه الأمريكي، فالحركة نفسها مصنفة على قوائم الإرهاب الأمريكية، والمدهش أكثر أن طالبان لم تقبل بالجلوس مع المفاوضين الأمريكيين، إلا بعد أن وافقت واشنطن على شرطها باستبعاد حكومة كابول بقيادة "أشرف غاني" من التفاوض.
"أشرف غاني" هو الرئيس الأفغاني الذي تعتبر الولايات المتحدة أنه جاء نتيجة عملية ديمقراطية، وهاهو اليوم يعترض على استبعاده من المفاوضات التي ستقرر مصير بلاده، دون أن يلقي له أحد في واشنطن بالاً.
في نفس الإطار كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية الأسبوع الماضي، عن تسريع وتيرة الانسحاب الأمريكي من سوريا، والذي من المفترض أن يكتمل في نيسان المقبل حسب تقرير الصحيفة، حيث يبدو أن ضغوط مراكز القوى التي اصطلح على تسميتها بمراكز"الدولة العميقة في واشنطن" قد فشلت في إثناء الرئيس ترامب عن الوفاء بتعهده بسحب الجيش الأمريكي من البلد التي وصفها بأنها «رمال وموت».
بالتأكيد لا يمكن تفسير قرار الانسحاب الأمريكي من منطقتنا، بارتفاع حرارة الطقس كنتيجة للاحتباس الحراري مثلاً، فالمشاريع العسكرية الأمريكية واجهت مقاومة شعبية شرسة، وبدعم من كل من الدولتين التي كانت خطط التوسع الأمريكي تستهدفهما بعد العراق: إيران وسوريا، ففي 25 تشرين الأول من العام 2018 نشر الجيش الأمريكي تقريراً عن حرب العراق، أذاعت خلاصته لاحقاً قناة "سكاي نيوز" الأمريكية، التقرير عبارة عن دراسة مكونة من 1300 صفحة، استناداً إلى أكثر من ألف وثيقة سرية تم الافراج عنها، وبدأت عملية كتابة التقرير عام 2013، بتكليف رسمي من رئيس أركان الجيش آنذاك "ريموند توماس أوديرنو".
لكن خروج التقرير للعلن تأخر كثيراً حتى عهد الجنرال الحالي" مارك ميلي"، فقد كان مقررا نشره عام 2016 ، لكن ضغوطاً حالت دون ذلك، تجنباً لما سمي حينها بنشر «الغسيل القذر».
ويتحدث مؤلفا الدراسة، العقيدان "جو ريبورن" و"فرانك سوبتشاك"، وكلاهما متقاعدان في وقت اكتمال هذا المشروع عام 2018، عن تنسيق إيراني- سوري لدعم الفصائل العراقية من الطائفتين«السنية والشيعية»، والتي قاتلت الجيش الأمريكي في العراق لسنوات طويلة، حيث يظهر التقرير أن المراهنة الأمريكية على التكنولوجيا المتقدمة للسيطرة على بلد كبير كالعراق، سقطت سقوطاً مدوياً، كما سقط معها تقاليد وتنظيرات أمريكية أخرى بشأن الحروب الاستباقية، كما يقول العسكريان الأمريكيان.
تتوالى قرارات الانسحاب العسكرية المتتالية، دون أن يشعر رجل الشارع العادي في منطقتنا والعالم، بما يدور حوله من تغيرات استراتيجية، فالانكسار العسكري الأمريكي، لا يرافقه تراجع مماثل على الساحتين الإعلامية والثقافية، حيث لا تزال أمريكا تهيمن على وسائل تشكيل الوعي العربي والعالمي، من خلال سيطرتها على وسائل إعلام، وشبكة الانترنت، ومواقع تواصل اجتماعي، وحتى إشعار آخر لم يحرز خصومها تقدماً في هذه المجالات يناظر ما أحرزوه من إنجازات عسكرية في مواجهتها، فشركة "جوجل" وحدها تمتلك من الأقمار الصناعية ما لا تمتلكه دول العالم الأخرى مجتمعةَ بما فيها روسيا و الصين.
المصدر: خاص
شارك المقال: