الولايات المتحدة ..وسوريا الدولة المشكلة
وسام إيراهيم
أكثر من أربعين عاماً مضت عندما بدأت الولايات المتحدة التدخل المباشر وبقوة أكبر عما كان سابقاً في تفاصيل الصراع العربي – الإسرائيلي مع قيام حرب تشرين عام 1973 ، والتي انهار معها الاعتقاد الإسرائيلي ومن ورائه الأمريكي أن العرب لن تقوم لهم قائمة بعد نكسة حزيران، وعليه فرضت المتغيرات المستجدة على أمريكا الانغماس أكثر في الصراع لصالح "إسرائيل"، ووضعت كل طاقاتها السياسية والعسكرية في خدمة الحليف، وكان هنري كسينجر هو الذي أسس بقوة لهذه السياسة الجديدة.
مع بداية حرب 1973 اتضح للمسؤول الأمريكي أن الدولة المشكلة في الصراع ستكون سوريا، فالسادات وفي اليوم الأول للحرب اتصل بكسينجر يعرض عليه السلام مع "إسرائيل"، وفي الوقت الذي كانت فيه حرب الرئيس الراحل حافظ الأسد حرب تحرير، كانت حرب السادات حرب تحريك، أما الأردن فاستأذنت "إسرائيل" الدخول في الحرب ضدها حرجاً، بعد أن شاركت معظم الدول العربية في هذه الحرب ولو أن بعضها كانت مشاركته رمزية، من بوابة "التضامن العربي".
منذ بداية التدخل الأمريكي لم يكن لدى سوريا مشكلة في الجلوس على طاولة تفاوض مفتوحة مع الولايات المتحدة.. الرئيس الراحل حافظ الأسد كان مرناً في التعاطي مع الأمريكيين، لكن المشكلة الأساس تكمن في الطرف الأمريكي الذي كان يكذب ويرواغ في كل مرة خلال هذه السنين، ويريد كل شيء دون مقابل، وبوقاحة.
"كامب ديفيد" كانت أول ضربة أمريكية لطموحات سوريا في إيجاد جبهة عربية موحّدة ضد "إسرائيل"، وعلى هذه القاعدة بدأت واشنطن تعمل لعزل دمشق وتهميشها، عبر شراء كل دولة عربية جارة لسوريا بنفس الأسلوب، الاتفاقات المنفردة، فتصبح بعدها سوريا دولة من ورق، لا حاجة للتفاوض معها بشأن "إسرائيل"، وبالتالي تضيع حقوقها المسلوبة، وهي الدولة المحاطة بأنظمة معادية ومتحالفة مع الولايات المتحدة وسهلة الانقياد لـ"إسرائيل"، إضافة إلى الخطر التركي القابع في الشمال، وهذا ما لم يرضَ به الرئيس الراحل، ومن بعده الرئيس بشار الأسد.
جاءت التطورات في لبنان لتقوّض ثقة سوريا أكثر بالنوايا الأمريكية، بدءاً بغزو "إسرائيل" لجنوب لبنان 1978، وصولاً إلى غزو لبنان 1982 بضوء أخضر من إدارة ريغان، والهدف الأساسي للحملة الإسرائيلية كان إيصال الكتائبي أمين الجميل إلى السلطة، ليتم بعدها توقيع اتفاقية سلام مع "إسرائيل"، ويتم دعم هذا الهدف بنشر قوات حفظ السلام في لبنان.
ردّت سوريا على اللعبة الأمريكية – الإسرائيلية عبر حزب الله الذي نفّذ هجومين سنة 1983؛ الأول ضد السفارة الأمريكية، والثاني على ثكنات المظليين الفرنسيين وقوات البحرية الأمريكية في بيروت، كبدّهم خسائر فادحة، وعلى إثر ذلك انسحبت القوات متعددة الجنسيات، وألغيت معاهدة السلام مع "إسرائيل"، وتراجعت الأخيرة، مقللة من حجم "المنطقة الأمنية" التي حددتها في الجنوب، وكانت هذه أول ضربة توجهها سوريا لمحاولة الأمريكيين الهيمنة على لبنان وعزلها، والنجاح الأول للرئيس حافظ الأسد في وجه طموحات واشنطن
ولمنع حدوث تهميش ديبلوماسي لسوريا عقب الاتفاقات المنفردة لمصر، الأردن، ومنظمة التحرير مع إسرائيل برعاية أمريكية، ومن أجل الضغط للتوصل إلى تسوية عربية - إسرائيلية شاملة بالشروط السورية، رعت دمشق فصائل المقاومة المسلحة في فلسطين ولبنان، ونتيجة لذلك وضعت سوريا على لائحة الحكومة الأمريكية للدول "الراعية للإرهاب" منذ عام 1979.
أدرك كسينجر مسبقاً أنه "لا يمكن للعرب القيام بحرب دون مصر، ولا أن يصنعوا السلام دون سوريا"، وإذا كانت واشنطن استطاعت منع حدوث حرب جديدة على "إسرائيل" بعد "كامب ديفيد"، فإنها مازالت حتى اللحظة لم تطبق البند الثاني من النتيجة التي توصل لها كسينجر، لاعتقادها الخاطئ أنه يمكن بطريقة ما صنع السلام في المنطقة دون سوريا، وهذا ما لم تسمح به سوريا حتى اليوم.. يقول باحث أمريكي " ستبقى سوريا المرجع الذي لا يمكن تجنّبه بالنسبة لجهود الولايات المتحدة، الهادفة لإقامة نظام إقليمي أكثراً استقراراً، ومكرّس بشكل إيجابي لخدمة مصالح الولايات المتحدة وحلفاءها".
كان على سوريا لكثرة أعدائها في الجوار، أن تبحث عن حلفاء آخرين لتدعيم موقفها، ووجدت ضالتها في إيران.. وبعد غزو صدام للكويت، دخل الرئيس حافظ الأسد في الحلف الأمريكي لتحرير الكويت، ومنع تقدم القوات العراقية باتجاه السعودية، لمجموعة أسباب كان منها تخفيف الضغط الأمريكي على سوريا ومحاولة رفع صفة "دعم الإرهاب" عن اللائحة الأمريكية، وإعطاء فرصة ثانية لواشنطن للعودة إلى دمشق للتفاوض، وإيصال فكرة أننا جاهزون للتعاون لحل مشاكل المنطقة، لكن الأمريكيين عادوا للمراوغة والكذب، ولم يستطيعوا فرض أي من الشروط السورية على "إسرائيل".
على إثر ذلك بدأ الرئيس الراحل مسعاه لتخفيف التوتر مع عراق صدام، ومع إعلان التحالف الإسرائيلي التركي منتصف التسعينات، بدأت سوريا تغيير موقفها اتجاه العراق، في محاولة على مايبدو لإنشاء محور جديد قوي يمتد من طهران إلى دمشق عبر بغداد في وجه المتغيرات الخطيرة في المنطقة، وقامت سوريا بتحدي العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة عبر الأمم المتحدة على العراق، والسماح بعودة التبادل التجاري بين البلدين، والتحضير لإعادة فتح أنبوب النفط مابين حقول "كركوك" في الشمال، ومرفأ بانياس السوري.
في تلك الفترة بدأت صياغة مشاريع على الورق في واشنطن لكسر شوكة سوريا، ومنها ماسمي بـ "فرصة نظيفة"، وملخصها يجب معاقبة سوريا في لبنان أولاً ثم في سوريا ثانياً.
مع بداية الألفية الجديدة واستلام الرئيس بشار الأسد زمام الحكم، أصبحت الولايات المتحدة أمام خيارين؛ إما تغيير سلوك النظام السوري ، وإن لم ينفع فالتغيير الشامل والقسري للنظام.
مع وصول جورج بوش، الابن الأكبر لجورج هربرت بوش المعروف باسم "بوش الأب" إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في 20 كانون الثاني 2001، وضعت "لجنة رئاسية" مكونة من أربعين وزيراً وسفيراً وخبيراً على مكتبه تقريراً بشأن الشرق الأوسط وخيارات السياسة الأمريكية.
التقرير خاطب رجل الأعمال النفطي قبل أن يكون رئيساً بـ "لاتفعل ذلك، وافعل ذاك ، وتنبّه هنا" محذراً من الخلط بين "نطاقين استراتيجين" في الشرق الأوسط، فالخليج وما حوله شيء وفلسطين وما حولها شيء آخر.
اللجنة وفي توصيتها الأولى أكدت على أهمية التحالف الاستراتيجي غير المكتوب مع إسرائيل، واستغلال الدول العربية المعتدلة "مصر، الأردن، المغرب والسعودية" لإبقاء عملية التسوية مفتوحة طوال الوقت.
وفي التوصية ذاتها توجيه للرئيس الأمريكي أنه "عليك أن تواجه المعارضين لسياستنا الحاليين والمحتملين بسياسة رادعة ، وهنا فعليك أن تتأكد أن سوريا - تحت قيادة بشار الأسد – تدرك أن تشجيعها لعمليات حزب الله سوف تستثير ردود فعل ضرورية تعرّض سوريا لضربات إسرائيلية موجعة"، مضافاً إلى ذلك في التوصية الرابعة "عليك أن تهتم بمثلث سوريا– لبنان- إسرائيل، و تشجيع عملية تغيير في سوريا ولبنان تفتح لك الباب لمفاوضات قد ترى أنك تستطيع توجيهها".
وحددت هذه التوصية الوسائل لبلوغ الهدف المذكور منها:
• عليك تقوية إمكانيات الردع الإسرائيلي لضمان تحجيم قدرات حزب الله.
• من الضرورة أن تدرك سوريا - نقلاً عنك مباشرة – أنها ستصاب بأضرار جسيمة إذا سمحت بتحويل مواقع الحدود الإسرائيلية – اللبنانية إلى منطقة عمليات عسكرية.
• لا بد للبنان أن يعرف أنك تربط بين أي مساعدات أو استثمارات لإعادة إعماره بشرط انتشار الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل والبدء في نفس الوقت بنزع سلاح حزب الله.
• جرّب إذا كان في مقدور الرئيس السوري بشار الأسد أن يقوم بتحسين علاقاته مع الولايات المتحدة
• عليك أن تتحرك بنشاط أكثر في لبنان وذلك عن طريق تشجيع مطالبة اللبنانيين بحرية أكبر، وذلك لفك القبضة السورية عن الشؤون اللبنانية.
• لا تقدم مساعداتك للجيش اللبناني .. وجّه مساعداتك إلى دعم النواحي الإنسانية.
تسع وصايا وجهتها اللجنة لنصح الرئيس الجمهوري من ضمنها الاستعداد لتوجيه ضربة عسكرية للعراق في حال أعادت بناء ترسانتها العسكرية، وردع إيران عن امتلاك أسلحة متقدمة، وتشجيع التغيير في كلا البلدين، كذلك تشجيع تركيا على القيام "بدور رئيسي في المنطقة مع إفهامها بطريقة واضحة أنها لا تستطيع أن تمارس هذا الدور إلا بالتعاون مع إسرائيل"، كما طلبت اللجنة التركيز على السلطة الفلسطينية وتحدثت عن "عصر ما بعد عرفات"!!.
لم يكد ينشف حبر الوصايا حتى خُطفت أربع طائرات مدنية من مطار بوسطن في الحادي عشر من أيلول، اثنان منهم استهدفا برجي التجارة في نيويورك وثالثة ضربت المعقل العسكري "البنتاغون" في واشنطن، في حين فشلت الرابعة في بلوغ هدفها، وهو ما اعتبره بوش بعد ابتلاعه الصدمة "إعلان حرب على أمريكا".
قبل أن ينقشع غبار الهجوم وُجّهت التهمة لـ"القاعدة" وزعيمها بن لادن، المتحصن في جبال "طورا بورا" الأفغانية، "الحرب على الإرهاب" أصبحت عنوان السياسة الأمريكية اللاحقة، احتلت أفغانستان .. لايكفي! الضربة التالية للعراق فهو يملك أسلحة دمار شامل .. سقطت بغداد .. لم يُعثر على شيء لا أسلحة دمار شامل ولا أخرى يتجاوز مداها ما هو ممنوع على العراق.
11 أيلول أعطت واشنطن الذريعة لتنفيذ الوصايا التسع..سقطت بغداد، أعلن بوش من على ظهر بارجة حربية أن "المهمة أنجزت"، كولن باول صرح أنه أبلغ الرئيس بشار الأسد قوله "تستطيع أن تكون جزءاً من مستقبل إيجابي أو أن تبقى في الماضي مع السياسات التي تتبعها .. الخيار لك".
جورج بوش وكوندليزا رايس رددوا عبارة مشهورة في خطاباتهم "سورية تعلم مايجب عليها أن تفعل"، إملاءات كولن باول للرئيس الأسد في زيارته لدمشق 2 أيار 2003 .. لم يقبل الأسد، بعد خمسة أشهر من الزيارة أصدرت واشنطن قانون "محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية".
على سوريا أن تدفع ثمن معارضتها الغزو الأمريكي للعراق .. ليس هناك أفضل من لبنان، تقارب أمريكي – فرنسي تتوج بلقاء "النورماندي" بين بوش وشيراك أنتج القرار 1559 قبل أن يتبناه مجلس الأمن الدولي في 2 أيلول 2004.
يقول "فنسان نوزي" صاحب كتاب "في سرّ الرؤساء" في مقابلة تلفزيونية أن شيراك كان يعتقد بأن خروج السوريين من بيروت سيؤدي إلى سقوط "النظام السوري" من خلال العمل الأمريكي – الفرنسي المشترك ضد دمشق.
صدر القرار .. اغتيل الحريري واتهمت سوريا باغتياله .. خرج الجيش السوري من لبنان، لابد من استكمال تنفيذ بنود الـ"1559"، يجب نزع سلاح حزب الله، شنت إسرائيل عدواناً على لبنان صيف 2006، نشرت صحيفة "النيويورك" حينها مقالاً قالت فيها أن العملية العسكرية قسمت إلى ثلاث مراحل حسب الأهداف:
• تدمير القدرة العسكرية لحزب الله
• تهميش وعرقنة سوريا
• التحضير لضربات ضد مواقع إيران النووية
أبلغ الرئيس الأسد حينها السيد حسن نصر الله أنه مستعد لدخول الحرب لكن الأخير طمأنه إلى أن "وضع المقاومة ممتاز" طالباً من سوريا التريث في الانخراط بالحرب، وقبل صدور القرار 1701 لوقف "الأعمال العدائية" كانت "مقبرة الميركافا" الإسرائيلية بصواريخ "كورنيت" قدمتها سوريا للحليف اللبناني، انتهت حرب تموز، لم يُسحق حزب الله، ولم يسقط "نظام" دمشق.
تبدّل المشهد، فكما أن ما بعد 11 أيلول ليس كما قبله ، كذلك ما بعد حرب تموز ليس كما قبلها..تقاربٌ أمريكي - سوري بالوكالة "نيكولا ساركوزي"، ودمشق لم تخضع لا بالترهيب ولا بالترغيب.
انتهت ولاية الرئيس الأمريكي الثانية في 20 كانون الثاني 2009، ووصل الديمقراطيون إلى الحكم بمرشحهم الأفريقي "باراك أوباما"، ليقود حرباً ناعمة أو عن طريق وكلاء لإخضاع من بقي من الشرق الأوسط خارج السطوة الأمريكية متمثلاً بالمحور "الإيراني – السوري" ومن في صفّه، لتبدأ اللعبة من جديد، فكان "الربيع العربي" فرصة ثمينة لواشنطن لمحاولة إخضاع الدول "المارقة" عبر تغيير حكوماتها الممانعة وغير المرغوبة، فانخرطت واشنطن بشكل غير مباشر ولاحقا بشكل مباشر في الأزمة السورية التي بدأت عام 2011، لتغيير نظام الحكم في دمشق ورسم مستقبل سياسي لسورية يلائم مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، لكن النتيجة وبعد سبع سنوات كانت قبل أيام مع القرار الأمريكي بالانسحاب العسكري من شرق الفرات، وإقرار ترامب بالخسارة في سورية.
ومع الخسارة الأمريكية الجديدة في سورية تبقى أبواب الصراع مفتوحة، تتجدد كل فترة بأسلوب جديد ناعم أو خشن.
بواسطة :
شارك المقال: