الردع الصاروخي في مواجهة التفوق الجوي
فارس الجيرودي
خاطب الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" أمس خصمه الأمريكي بمنطق رعاة البقر، مؤسسي أمريكا الأوئل «الكاوبويز»، الذين كانت سرعة امتشاق المسدس وإطلاق النار منه، هي ما يحسم الصراعات بينهم، إذ يفصل جزء من الثانية بين موت أحدهم وبقاء الآخر، يقول بوتين: «من حقهم (الأميركيين) أن يفكروا كما يشاؤون. لكن هل يمكنهم الحساب؟ أنا متأكد من أنهم بارعون بالحساب، دعوهم يحسبون سرعة أنظمة الصواريخ التي نطورها ومداها».
ففي مقابل الميزانية العسكرية السنوية الأمريكية الضخمة (غير المسبوقة في تاريخ البشرية) والتي وصلت 716 مليار دولار مؤخراً، وبفضلها تمكن الجيش الأمريكي من تحمل كلفة بناء وتشغيل «20 حاملة طائرات تجوب بحار العالم»، ومن المحافظة على تفوقه في مجال سلاح الجو على الجيش السوفيتي طوال الحرب الباردة، تخصص روسيا مبلغ خمسين ملياراً فقط كل عام للدفاع عن نفسها، حيث لا تمتلك إلا حاملة طائرات وحيدة هي "الأميرال كوزنيتسوف"، في حين يعتبر سلاح الصواريخ السريعة -الفرط صوتية- والقادرة على التملص من الدفاعات الجوية، هو السلاح الذي تراهن عليه روسيا، لردع أي تهديدات أمريكية لها، ولتحقيق التوازن مع القوة العسكرية الأضخم في التاريخ، حيث تحتفظ روسيا بالتفوق في هذا المجال، سواء لناحية سرعة صواريخها أو مداها أو قدرتها على المناورة وإلحاق الدمار بالنقاط المستهدفة.
لقد ظهر الفارق بين القدرات الصاروخية الأمريكية ونظيرتها الروسية خلال الحرب السورية، عندما قرر الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" قصف القاعدة الجوية العسكرية السورية "شعيرات" بـ59 صاروخ "توماهوك"، ولم ينجح بتدميرها، حيث استؤنفت الطلعات الجوية السورية من تلك القاعدة بعد يوم واحد فقط، وقدمت وزارة الدفاع الروسية آنذاك مقطعا لآثار القصف الأمريكي، تم تصويره بطائرة استطلاع دون طيار، أظهر عدم وجود أي أضرار في البنية التحتية للقاعدة.
بالمقابل تمكنت ست صواريخ روسية مجنحة فقط من تدمير تحصينات ومستودعات وآليات في موقع تابع للجماعات المسلحة بدير الزور شرق سوريا في الخامس من تشرين الأول 2017، و هي أهداف أدق وأصعب استهدافاً بكثير، من تدمير قاعدة جوية مكشوفة فوق الأرض.
عملياً لا يمكن المقارنة بين كلفة تطوير وتشغيل والتدريب على استخدام الطائرات المقاتلة، وبين كلفة تطوير الصواريخ بنوعيها الدفاعي والهجومي، وفي حين لا تبدو الطائرات الأمريكية الحديثة المحمولة على حاملات الطائرات الضخمة، قادرةً على القيام بأكثر من المهام التي تستطيع الصواريخ الروسية القيام بها، تتفوق الصواريخ بإمكانية إطلاقها من متن سفن صغيرة أو غواصات تجوب المحيطات يصعب اكتشافها، أو حتى من اليابسة البعيدة بفضل مداها الكبير.
لقد تورط البنتاغون «وزارة الدفاع الأمريكية» خلال العقدين الماضيين في مشروع تطوير طائرة "الإف 35"، التي تعتبر درة سلاح الجو الأمريكي، ومشروع العصر، فوصلت مجمل كلفة تطوير المقاتلة والتكنولوجيات المتعلقة بها نحو «1.2 تريليون دولار»، لكن الولايات المتحدة أُجبرت أخيراً ومعها باقي حلفائها ممن صدرت لهم المقاتلة، على إبقاء أسطول "الإف 35"، رابضاً على الأرض ريثما يتم تصحيح خطأ في أنابيب الوقود أدى إلى سقوط إحدى الطائرات من هذا الطراز العام الماضي، حدث هذا بعد 12 عاماً كاملة من دخول المقاتلة الشبحية إلى خط الإنتاج النهائي، وهي مدة يفترض أن تكون أكثر من كافيةٍ لتصحيح أي أخطاء تقنية في تصميم الطائرة.
بالمقابل لا يتطلب تطوير تكنولوجيا الصواريخ كل تلك التعقيدات، ولا إنفاقاً عالياً، وهي في نفس الوقت تسمح بإمكانية إلحاق دمار شامل بالبنية التحتية للخصم «في حالة لم تكن موجهة»، أو إنتقاء أهداف محددة بدقة عالية في حال كانت صواريخ موجهة، حيث أصبح هذا الخيار متاحاً بسهولة للدول الكبرى في عصر انتشار الأقمار الصناعية التي تجوب الفضاء الخارجي وتصور حتى أدق التغييرات على أرض الخصم، بل و متاحاً للدول الصغيرة وحتى الميليشيات في عصر الدرونز(الطائرات المسيرة دون طيار) قليلة التكلفة وصغيرة الحجم، التي لا يمكن لأي شبكة رادار التقاطها، والقادرة على توجيه الرشقات الصاروخية، وتصحيح رميها في ساحة المعركة، إذ يبدو وبفضل تلك المتغيرات التقنية أن المستقبل تم حسمه لصالح الصاروخ في مواجهة الطائرة.
كثيرون لا ينتبهون إلى دور حرب تموز 2006 في افتتاح عصر الردع الصاروخي في مواجهة تفوق أسلحة الجو الغربية، فسلاح الجو الإسرائيلي يعتبر نسخةً مصغرة ًعن أحدث سلاح جو في العالم (الأمريكي)، حيث تمتلك إسرائيل أحدث طرازات الطائرات الأمريكية، وأحياناً مع تعديلات وتحديثات لا تتوفر في النسخ الأمريكية ذاتها، «"الإف16" صوفا المعدلة إسرائيلياً تعتبر بالنسبة لكثير من المحللين العسكريين العالميين النسخة الأفضل في العالم»، لكن حزب الله ورغم ذلك، تمكن وكنتيجة للحرب من تحقيق توازن الردع مع إسرائيل، وذلك بفضل إمطارها بالرشقات الصاورخية منذ اللحظة الأولى للحرب حتى اللحظة الأخيرة.
حينها أُرغمت إسرائيل بعد 33 يوماً على طلب وقف إطلاق النار، دون أن تحقق أهدافها المعلنة من العملية العسكرية، بل وعلى الالتزام بعدم قصف لبنان لمدة 13 عاماً منذ نهاية الحرب وحتى يومنا هذا، وهي سابقة في تاريخ الكيان الصهيوني، الذي لم يتوقف منذ نشوئه، وفي أي مرحلة عن استهداف لبنان بالقصف والعدوان، حتى قبل تموضع المقاومة الفلسطينية فيه، وقبل أن تنطلق منه أي عمليات باتجاه فلسطين المحتلة.
لقد أثبت الردع الصاروخي في حرب تموز فعاليته، إذ لم تتمكن الطائرات الإسرائيلية من تدمير قواعد إطلاق الصواريخ على الأرض اللبنانية، رغم أنها كانت تجوب أجواء لبنان بحرية تامة، بسبب عدم وجود أي دفاعات جوية لبنانية تردعها، لتسقط مع ذلك الفشل الكثير من النظريات والافتراضات التي تنطلق منها استراتيجيات الحرب الأمريكية، والمعتمدة بصورة شبه كاملة على القصف الجوي من الطائرات.
ليست روسيا هي الطرف الدولي الوحيد الذي لفتت عِبَر ونتائج حرب تموز 2006، انتباه واضعي استراتيجيتها العسكرية، بل إن دولة كبرى أخرى تقع على الناحية الشرقية من الكرة الأرضية، هي الصين، قررت منذ ذلك التاريخ اعتماد استراتيجية الردع الصاروخي، في مواجهة تفوق سلاح الجو الأمريكي وقواعده الأمريكية المنتشرة في منطقة شرق آسيا (اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة)، وهي القواعد التي كانت يدرك التنين الصيني أنها مخصصة لمحاصرته ضمناً، وإن كان المعلن أنها مخصصة لمواجهة كوريا الشمالية، ليشكل توتر العلاقات الأمريكية- الصينية على خلفية الحرب التجارية التي قرر ترامب شنها ضد المنتجات والشركات الصينية عام 2018، مناسبةً ملائمةً للصين كي تظهر سلسلة صواريخها الرادعة، في وجه "الكاوبوي" الأمريكي.
المصدر: خاص
شارك المقال: