الميزان التجاري السوري في ربع قرن - دراسة تحليلية لمؤشرات التجارة الخارجية خلال الفترة 1992-2016
تتعدى أهمية دراسة مؤشرات التجارة الخارجية، رسم صورة دقيقة عن واقع القطاع الاقتصادي، إلى تحديد تأثيره في النمو الاقتصادي لأي بلد، نظراً لدور التجارة الداعم أو المعيق للنمو وتحسين الإنتاج، فالبلد الذي يعاني من عجز في الميزان التجاري (يستورد أكثر مما يصدر) يظهر ناتجه الإجمالي المحلي بحالة قصور عن تلبية الطلب الداخلي (إجمالي الإنفاق على الاستثمار والاستهلاك في البلد)، ما يقوض فرص النمو الاقتصادي، عدا عن انكشاف الاقتصاد على الصدمات الاقتصادية الخارجية التي تصيب الدول المورّدة، والتي يتم الاعتماد عليها بشكل رئيس لتلبية جزء مهم من الطلب الداخلي في الاقتصاد المحلي.
يهدف هذا البحث إلى تكوين صورة تفصيلية عن واقع التجارة الخارجية في سوريا، بوساطة تطبيق مجموعة واسعة، ومتنوعة من المؤشرات الإحصائية، التي تربط بين أداء التجارة الخارجية والاقتصاد الكلي للبلد، على امتداد ربع قرن (1992-2016)، من أجل الوصول إلى نتائج دقيقة، قدر المستطاع، بعيداً عن تأثير التغيرات الاقتصادية الموسمية والطارئة، ولدراسة تبعات التحرر التدريجي في الاستثمار والتجارة في الميزان التجاري، وفي النمو الاقتصادي.
خلص البحث إلى تحديد مواضع الخلل البنيوي، المتأصل، في قطاع التجارة الخارجية، والذي كان له دور سلبي في النمو الاقتصادي، إذ عانى الميزان التجاري من عجز مستمر على مدى 21 عاماً من المدة التي تستقصيها الدراسة، ما يشير إلى عدم نجاح محاولات تحرير الاقتصاد في دعم النمو الاقتصادي عبر قنوات التجارة الخارجية، تحديداً قطاع التصدير، وعجزها عن تغيير العقلية السائدة التي تحكم العمل في القطاع، والقائمة على إيجاد أسواق للمنتجات المحلية، بغض النظر عن جودتها، بدلاً من التخطيط للإنتاج بناءً على دراسات الأسواق الخارجية، لتلبية متطلبات الأذواق والجودة فيها، وهذ ما يشكل أحد أبزر المعوقات الداخلية لقطاع التصدير في سوريا.
كما خلص البحث إلى عدة نتائج، منها هشاشة التوازن في الميزان التجاري، نتيجة درجات التركز العالية في التصدير، إذ تجاوزت
نسبة صادرات النفط 70% من إجمالي الصادرات عام 2001، لينتقل التركز بعد ذلك التاريخ إلى قطاع الأغذية والتوابل والمزروعات والحيوانات الحية مسجلاً نسبة تزيد على 50%، ما يشير إلى تدني مستوى القيم المضافة في التصدير، وتخلف الصناعات التصديرية على مدى سنوات الدراسة، إلى جانب غياب للميزات التنافسية، في قطاعات التجارة الخارجية، وقصور الإنتاج المحلي عن تلبية الطلب الداخلي، وبالتالي ضعف مؤشر الاكتفاء الذاتي، نظراً للاعتماد على المستوردات لتلبية ربع الطلب المحلي فقط، إلى جانب الأهمية النسبية المتدنية للتجارة الخارجية السورية بالنسبة للتجارة العربية والعالمية.
توصل البحث إلى اقتراح العمل وفق مسارين متوازيين، في محاولة لمعالجة الخلل، وتصويب اتجاه التجارة الخارجية في سوريا نحو دعم النمو الاقتصادي وتمكين فرص التنمية الاقتصادية عبر توفير فرص العمل والحدّ من الفقر وتحسين الدخول، يتمثل الأول بدعم الصناعات التصديرية، وفق أسس علمية، كما حددتها الاستراتيجية الوطنية للتصدير التي أقرّها مجلس الوزراء في آذار 2018، بالترافق مع المسار الثاني المتمثل باعتماد نهج التجارة القائمة على سلسلة العرض وتمكين التخصص الرأسي، بداية في مجال تجميع السيارات، وتوسيع الدائرة لتشمل تجميع الهواتف الذكية والأجهزة الطبية والأجهزة الإلكترونية الحديثة، بالاستفادة من تجارب الدول الصديقة الرائدة في هذا المجال مثل الصين.
يشار إلى أن توافر البيانات الحقيقية والدقيقة أمر شبه مستحيل أثناء دراسة التجارة الخارجية السورية، لذا فإن قيم النسب والمؤشرات في البحث تعتمد على البيانات الرسمية فقط، وتتجاهل الاقتصاد غير المنظم "اقتصاد الظل" والقيم الحقيقية للصادرات والمستوردات، والتي قد تكون مضاعفة، بأكثر من مرة عن الرسمية التي تعتمد على البيانات الجمركية، إذ يتهرب المستوردون والمصدّرون، بحسب العادة، من الإعلان عن القيم والكميات الحقيقية لأنشطتهم، من أجل الالتفاف على النظام الضريبي والجمركي، ورياضياً، إن استخدام النسب يخفض من درجات الخطأ، لكون المبالغة في القيم محققة في كافة جوانب المعادلات الرياضية، أي في المستوردات والصادرات والناتج، لذا يمكن الاعتماد على نسب تلك المكونات بشكل جيد، بأقل احتمالات الخطأ، وهذا كان معيار اختيار المؤشرات في البحث.
بواسطة :
شارك المقال: