الحرب والعقوبات الاقتصادية والطفولة البائسة في سوريا
د.مدين علي
انعكست تداعيات الحرب بصورة سلبية على جميع شرائح المجتمع السوري ومكوناته الاجتماعية في طول الجغرافية السورية وعرضها دون استثناء، ولكن بصورة نسبية مختلفة، تباينت من منطقة لأخرى.
وتعد شريحة الأطفال وصغار السن والقاصرين، من أهم الشرائح العمرية، التي تعرضت لأذى مديد، سيرافق غالبيتهم مدى الحياة، لطالما خرجوا من المدارس، وفقدوا فرص متابعة الدراسة والتعلم، إذ تشير البيانات والتقديرات ذات الصلة، إلى ارتفاعٍ كبيرٍ في نسب التسرب من المدارس والتعليم، بدأت ملامحه تظهر بقوة منذ عام 2011. فقد ارتفعت نسبة التسرب من الطلاب الناجحين في مرحلة التعليم الأساسي، والذين من المفترض أن يلتحقوا بالتعليم الثانوي (العام والفني والمهني) من (22%) عام 2012 إلى 34% عام 2013 واستمر كذلك في عام 2014 وعام 2015، ثم بدأت بالتراجع قليلاً إلى حدودٍ معينة، لكنها بقيت تتجاوز حدود 20% في السنوات اللاحقة.
ناهيك عن أعداد المتسربين العالية، ونسبهم المرتفعة، ممن لم يحصلوا على شهادة التعليم الأساسي، التي بلغت نسباً مقلقة ومؤشرات مخيفة، تستلزم التدخل العاجل وبقوة، للحدّ منها وتطويق أسبابها.
وفي الواقع أن ارتفاع نسب التسرب له ظروفه الموضوعية وأسبابه، التي تتعلق بظروف الحرب الدائرة في سوريا، والعقوبات الاقتصادية، والإجراءات القسرية أحادية الجانب المفروضة عليها والتي انعكست مفاعيلها السلبية بقوةٍ على واقع الأسر والعائلات، وكان لها بالغ الأثر والتأثير السلبي على واقع الأطفال والطفولة. فقد تسببت الحرب الدائرة في سوريا إلى جانب العقوبات في ارتفاع نسب الهجرة الداخلية، وزادت من حركة النزوح، وتغيير أماكن العيش والإقامة والاستقرار، إضافة إلى أنها تسببت في فقدان كثير من الأسر والعائلات السورية لمدخراتها وموارد رزقها، ومصادر كسب عيشها، من كل ذلك إلى فقدان بعضها لأرباب الأسر والمعيلين لها، ما أدى إلى ارتفاع نسب الحرمان والفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي، وعجزُ العائلات عن الاستمرار في الإنفاق على أبنائهم في التعليم، الأمر الذي أسهم بقوة في دفع الأطفال للخروج من المدارس وحلقات التعليم، والالتحاق بسوق العمل ( وذلك بالتساهل وغض النظر من قبل الأهل، أو بقرارٍ صريحٍ ومباشرٍ منهم) ، بهدف تخفيف الأعباء عن أسرهم، ومساعدة الأهل في تأمين الدخول والموارد اللازمة لتغطية تكاليف الحياة، ومستلزمات الإنفاق على حاجات أفراد الأسر والعائلات.
وفي الأحوال كافة، إن ارتفاع نسب التسرب من المدارس، هي ظاهرة طبيعية في ظروف الأزمات الكبرى وحالات الحروب المدمرة.
لكنها تفاقمت بصورة خطيرة في سورية جراء العقوبات الاقتصادية والإجراءات التعسفية المُرتكبة بحق الشعب السوري، المخالفة لمبادئ القانون الدولي الإنساني، ولمبادئ حقوق الإنسان.
إضافة إلى الأسباب الأخرى المتعلقة بمجريات الحرب ومنعكساتها، وغياب تطبيق القانون الرادع والعقوبات وانشغال الدولة بأولويات أخرى، ويبقى الأخطر في هذا الإطار هو سلوك الجماعات الإرهابية المسلحة وبعض القوى في المناطق التي خضعت لسيطرتها، إذ اتجهت نحو تدمير البنى التحتية للمؤسسات التعليمية والمدارس، وغيّرت الخطط التدريسية والمناهج، واعتمدت مناهج بديلة، تمّ إعدادها بإشراف الجهات المسلحة، ما دفع كثيراً من الأسر والعائلات لتفضيل عدم إرسال أولادهم إلى المدارس.
بصرف النظر عن الأسباب الكامنة وراء ظاهرة التسرب، والتي تُعدُّ بمُعظمها أسباباً قاهرة وموضوعية، فإن النتائج الكارثية الكبيرة تقع على الدولة السورية، التي أصبح يتعيّن عليها أن تبذل جهوداً نوعية كبرى لمعالجة نتائج الظاهرة، وتصويب مسار الطفولة من جديد بالاتجاه الصحيح، كما تقع على الأطفال المتسربين أنفسهم (الضحايا)، الذين تغير مجرى حياتهم، جراء حرمانهم من فرص متابعة التعليم، وفقدانهم عوائد الفرص البديلة، إضافة إلى مأساتهم الكبرى، فيما يتعرضون له، جراء الاستغلال البشع لحاجتهم وحاجات أسرهم وعائلاتهم، إذ يجري تشغيلهم بأجور أقل، ولعدد ساعات عمل أطول، ويتعرضون لانتهاكات وعنف أسري ومجتمعي جسدي وعضوي، وآخر معنوي ونفسي، لكن الأخطر هو أنه يصبح من الأسهل في ضوء جهل هؤلاء وحاجتهم وفقرهم المادي والمعنوي، اقتيادهم لموقعٍ آخر واستخدامهم لغايات أخرى وأهداف نعرف كيف تبدأ معها الكارثة، ولا نعلم كيف تنتهي.
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: