"العلم في الصغر" قد يصبح ويلاً
عبد الغني الحمد
"العلم في الصغر كالنقش على الحجر"، هي حكمة تدعو إلى إعمار عقول الأطفال بالمعلومات، وتكثيف المحتوى الذي يضم خارطة طريق حياتية، ترشد الطفل في أطوار عمره الباقية، حكمةٌ أراد بها من أطلقها سلوكاً طيباً للأجيال، من خلال تلقينهم الوصايا والمبادئ الحميدة وهم في مقتبل العمر، لكن وبالنظر أكثر إلى ما آلت إليه الأجيال بعد سنين طويلة من ذلك، نجد أن الحكمة أثبتت نجاحها، ولكن بعكس ما اشتهى قائلها الأول وعلّتها، إذ بات الناس اليوم أشبه برجال آليين تحكمهم المبادئ التي تعلموها في الطفولة، وبشكل أدق في المدرسة، بيت الأطفال الثاني.
"مسؤول أنت عن تصرفات غيرك"، هي القاعدة الذهبية الأولى التي كان علينا في المدارس أن ندركها، فأنت كطالب مستجد، تجد نفسك معرّضاً للعقوبة إن أصدر زميلك في الصف صوتاً هز كيان الأستاذ، أو رمى قلماً تحت طاولة المعلمة، عندها تحلّ الكارثة، ويجتاح غضب المعلم التلاميذ، ويصدر عقوبة لا مجال فيها للطعن أو الاستئناف، فتنزل العقوبة بالجميع، في جو أشبه بجو المهاجع في السجون، ويتحول الطفل المسبب إلى شخص منبوذ فاقد للثقة بين زملائه، وهنا يتعلم الطلاب الدرس الأول في المدرسة، حتى قبل تعلم الحروف، أن "لا تثق بأحد"..
وعلى عكس البلاء، فإن الجائزة لا تعمّ، هي مخصصة للمجتهد دون غيره، فشهادات الامتياز والمرحى والتقدير، لا تُمنح إلا لمن حالفه الحظ وأحرز معدّلاً عالياً يباهي به أمام رفاقه، وإن كان وافر الحظ وحظي بمعلم لا يبالي ببعض الليرات من راتبه، فقد نال المنى بهدية قل نظيرها، سيارةٌ بلاستيكية أو علبة ألوان مائية، كانت كفيلة لأن يطلق المتميّز عنان فرحه، ويعانق السحاب، في وقت يرى فيه بقية زملائه، وهم يتلقون عبارات الانتقاص والازدراء، فيتعلم احتكار النجاح لنفسه، وربما تسوقه مواقف شبيهة إلى أن يصبح شخصاً متغطرساً في كبره، فيما يكتفي أصحاب الطبقة الشعبية من باقي الزملاء بالتصفيق لمجد المتفوّق، وقد يتحولوا في المستقبل إلى مصفّقين بارعين في أماكن قد تتطلب منهم ذلك.
ذات يوم وفيما كانت الحصة الخامسة تشارف على النهاية، أقبلت معلمة اللغة الإنكليزية، بوجه متغضن وخطوات حثيثة، داهمت الصف بمسطرتها وأخرجت طالباً في الصف الثاني يدعى أحمد، ودون مقدمات، انهالت على صاحب السنوات السبع بعدد من الضربات، لم تسلم أجزاء جسده من الشر المستطير للمسطرة التي تهولت إلى هراوة، وفيما أنهكها التعب، تصاعدت أنفاسها وهبطت، وبعد أن زفرت النفس الأخير بوجه الطفل، صرخت بوجه الطلاب: "يلي بقرب على ابني سامي المرة الجاية رح موتو من الضرب"، فتسابق الطلاب حينها لخطب ودّ سامي "ابن الآنسة المدعوم"، وتعلّموا درسهم الثاني للحياة المقبلة، تودّدوا وتقربوا وتملقوا، وإن شئتم خافوا!
إن أردت أن تعرف مستقبل دولة ما فابحث في قوتها العسكرية، ومحّص جيداً في عتادها البشري، وألق نظرة على عوائد السياحة ومواطن الترفيه وأي شيء تريده، لكن لا تغفل أن تقوم بزيارة إلى إحدى مدارسها الابتدائية، فهناك مربط الخيل وصراط الأجيال القادمة.
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: