على طريق دمشق.. وعلى طريقتها
وأنت تسير في أحد شوارع دمشق أياً كان المستوى المعيشي لأهلها، فلن تستطيع أن تغمض عينك عن بضعة مشاهد، أو أن تسد أذنيك عن "كمشة" أحاديث لابد أن تسمعها، فمثلاً البارحة بعد أن اشتكت "الفأفيل" المتراكمة في قدمي بانتظار أي وسيلة تقلني للمنزل حتى لو كانت "حمارة عرجاء" (علماً أنها حتى هي الأخرى مفقودة).
لفتتني عبارة كتبها صاحب العروس الصفراء "التكسي" قال فيها: «لا تهاجروا ما ضل حدا»، اتخذت قراراً متجبراً بركوب تلك العروس، دون أن آبه بالراتب الذي استل أكثر من ثلاثة أرباعه من جيبي قبل مضي النصف الأول من الشهر حتى، ركبت لأعرف من هذا الذي مازال يجوب شوارع دمشق بعبارة تنصحهم بعدم الهجرة؟
دقائق من استقلال تلك المركبة الفاخرة وإذ بهاتف قائدها يرن استللت النظر (أبو ماهر يتصل) وصوت عال يخرج يقول: «مشان الله لو عشرين لتير دبرها بمعرفتك» يا إلهي يحتاج واسطة لبضة ليترات من "المازوت" لجراره الزراعي إذ لم تتكرم عليه البطاقة اللعينة عفواً الذكية لتعطيه مخصصات تمكنه من فلاحة أرضه، «إذا اصاحب التكسي لديه واسطة تمكنه من الحصول على ذاك السائل العجيب دون معاناة، ولذلك ينصح بعد الهجرة» قلت بيني وبين نفسي.
انتهيت من المرحلة الأولى من طريقي إلى المنزل، نعم لدي مرحلة أخرى لكن في هذه المرحلة لا يوجد انتظار على الواقف، هذا المرة يوجد انتظار داخل المقصورة البيضاء، لكن قبل أن أصلها حديث رجل أربعيني بدأ الشيب يشق طريقه في رأسه، كان ينطق بعبارة لهجتها أقرب لتوسل مع حفظ الكبرياء، كان يتحدث إلى أمرأة لباسها يشي بأنها موظفة «الله يوفقك دبريها بجبلك الجرة» يبدو أنها هي الأخرى تستطيع الحصول على الأسطوانة الزرقاء السحرية دون عناء، وذاك الرجل يتوسل عطفها.
تنهيدة متعبة أطلقتها وتابعت المسير فلقد أوشكت طاقتي على التحمل أن تنتهي وهذا أمر كارثي، لأن الحياة هنا لا يوجد فيها أي مصدر للطاقة إلا "الطاقة الروحية"، سارت بنا المقصورة البيضاء بالاتجاه المرجو، وأخيراً لاح وجه منزلي في الأفق وكون منطقتنا (حمداً لله) مخدمة من البلدية بحاوية للقمامة لا مانع بأنها بجانب المنزل يكفي طلة وجدها.
ومع التكدس الدائم للقمامة فلا يخف على أحد محتويات قمامة حارتنا، لكن هذه المرة المشهد كان صاعقاً، في وقت كانت شارفت الشمس على بدء موعد "تقنينها"، نعم وجه أزرق متجمد ملتف بخرقة بيضاء رضيع بحجم كفين، مرتبكة هربت ثم عدت، هربت ثم عدت، نكست رأسي ليس شأني شأن البلدية التي كانت تدعو ربها أن يأتي أحد ليستثمر قمامتنا ويخلصنا منها.
لم نكن نعرف أن الأطفال باتوا قمامة فهذا الطفل المتوفي بعد ساعات من ولادته وبعد أن كتب الله عليه أن يولد هنا، بات هو ونحن القمامة فهل من مستثمر!؟
المصدر: خاص
شارك المقال: