أعمال مضاعفة لمن يجب ألا يعملوا أساساً !
كريم مهند شمس
عربة معدنية صدئة، متشققة وتعبة، تماماً مثل صاحبها، "أبو محمد" الذي اعتاد أن يجول بها شوارع المدينة طيلة يومه جيئة وذهاباً من مكان لآخر كسباً للرزق، إلى أن أصبح إسفلت "دمشق" وأرصفتها جزء من عربته، وجسده أيضاً.
هي حال الرجل الستيني الصلب، الذي لم يتوانى عن خوض ذات المعركة يومياً على مدار السنة، فرغم أن الحياة أخذت نصيبها وأكثر من جسده، لم يستطع "أبو محمد" تذكر تاريخاً مر عليه دون الذهاب للعمل، ولا فجر صباح لم يكن فيه متأهباً هو وعربته للبدء بالبحث عن رزقه ولقمة أطفاله.
إلا أن نبرة "أبو محمد" وهو يروي قصته، لم تكن ممتلئة بالتذمر والقلق كما تخيلنا، بل على العكس، كان متصالحاً مع ذاته لأبعد الحدود، قانعاً أن نصيبه من الحياة ليس سوى اختباراً من الله وراضياً بذلك.
ولأن نظرته الطوباوية تلك للحياة تثير التعجب قليلاً، يبقى صعباً على من لم يعش ما عاشه هذا الرجل في عقوده الستة أن يحدد بدقة مصدر ذلك التفاؤل، لكنه يشير بطريقة أو بأخرى إلى أن فاقد الشيء هو وحده من يعطيه وليس العكس.
وفي تفاصيل حديث "أبو محمد"، بدا لنا أنه ليس وحيداً تماماً في الملعب، حيث أن من يقاسمونه التجربة كثر، فأسواق دمشق القديمة تعتمد بنسبة كبيرة من قواها العاملة، على من هم بجيل ذلك الرجل، والمشكلة حينما توكل لهم المهمات المرتبطة ببذل جهد جسدي مضني خلال نقل البضائع وتفريغها، أو ما يعرف اصطلاحاً "بالشقيعة"، في حين يجب أن يحصل هؤلاء على مستوى معين من الراحة الجسدية، لأن للأعمار حقها عليهم.
فيما لا يخلو الجزء الآخر للقوى العاملة هناك، من الأطفال ومن هم دون الثامنة عشر عاماً، الذين يحتشدون مع عرباتهم في نقاط معينة من السوق لينقلوا البضائع من مكان لآخر لقاء أجر مادي معين تحدده المسافة الواجب قطعها ونقل الأشياء عبرها، وكرم صاحب تلك البضائع، مضاف إليهم عمال المحال والورش الذين غالباً ما ينسحبون من مدارسهم للخوض المبكر في الحياة والعمل بحثاً عن الرزق ولمساندة ذويهم.
لم يكن "أبو محمد" سوى سرداً مبسطاً يختزل تجربة الكثيرين غيره، إنهم الذين أخذوا حصصاً مضاعفة من الشقاء، وخاضوا في الحياة مبكراً أكثر من اللازم، أو مدة أطول مما يفترض أن تكون، ولأن ليس هناك من يلام وحده على ذلك ويتحمل المسؤولية كاملة، يمكننا الافتراض أن هناك كمية محددة من الألم مُخصصة لبلادنا وستوزع على الناس، فهنا سبب شقاء أحدهم المضاعف هو الراحة المضاعفة لآخر.
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: