عالم الحجيات الذي ابتلعته الحرب!
محمود عبد اللطيف
تحنّ سحر إلى أيام الخيام التي كانت تسكنها مع أهلها على الطرقات الرابطة بين المحافظات، لتغني لزبائنها وترقص بحرية بعيداً عن الازدحام الكبير في العاصمة، وتتذكر أيام الربيع في البرّية بالكثير من الحنين، فهناك كانت تستلذ بأكل ما تطبخه أمها من الأعشاب البرّية كـ"الخبيزة – القنيبرة – الكعوب"، وهي أسماء لنباتات طبيعية تطبخ بطرق متعددة، بحسب وصف الفتاة التي تجاوزت عقدها الثالث بخمس سنوات.
"الحجيات.. فنانات"
تتابع سحر حديثها لـ"جريدتنا"، وهي تدخن سيجارة أجنبية مهربة رخصية بالقول: «كنا نبني خيامنا بالقرب من المفارق المعروفة، أو بحيرات السدود في المحافظات الشرقية (الرقة – الحسكة – دير الزور)، وكان للزبائن نوعان، الأول يزور خيامنا ظهراً لأخذ استراحة من سفره وهم غالبا من سائقي الشاحنات، والآخر نسميهم بـ"السَهيّرة"، وهم من يزوروننا مع حلول الظلام من أبناء القرى القريبة من خيامنا، لنقدم لهم اللحوم المشوية وشيئا من التسلية بالغناء والرقص الشرقي، "لم نكن نتعرى لأحد"».
عادة ما يكون البزق والمهباج أو الطبلة هم أدوات الفرقة الموسيقية في الخيمة التي تتسع لنحو 10 أشخاص في الغالب، كمطعم صغير جداً، تكون الخيمة بإدارة رب الأسرة وأبنائه، فالشبان يعملون بين العزف وتقديم الطعام، بينما تكون إحدى البنات المغنية والراقصة في آن معا، وتؤكد سحر بالقول: «كل الزبائن لم يكن يعنيهم صوت المغنية بشيء، لكن جسدها وهي ترقص هو المهم، وعلى الرغم من إنهم لا يتمكنون من الحصول على رغباتهم الجنسية، إلا أنهم يستمرون بالمجيء، ربما السبب في استمراريتهم بالمجيء هو أنهم يأملون أنفسهم بالوصول إلى تلك الرغبات».
تعترف سحر أن المنافسة بين أصحاب الخيام الذين غالبا ما يكونون أبناء عمومة، تدفع البنات لتقديم بعض التنازلات للزبائن، كحصول الزبون على قبلة أو الجلوس بجانبه ليمارس نوعا من التحرش بقبول الفتاة، لكن ذلك كان يكلفه مبالغاً مالية إضافية، والزيادة تكون على سعر الطعام والشراب المقدم، وهنا تؤكد أن المشروبات الروحية إن وجدت في الخيمة فغالبا ما يكون الزبون هو من جلبها معه، لكنها تقول: «كانت الفتايات حين جلوسهن عصراً في خيمة واحدة يشتكين دوما من الحالة التي يعيشونها"، فهن عرضة للاستغلال من قبل ذويهم من الذكور الذين يجدون أن العائدات المالية أهم مما كانوا يصفونه بـ"سخافات النسوان"».
الحب ممنوع
فكرة الزواج من خارج الأقارب ممنوعة على بنات مجتمعات "القرباط"، وذلك لسببين الأول يتعلق بأهلها الذين يحاولون تزويجها لأحد أبناء عمومتها لتستمر قبيلتهم بالوجود، والثاني هو الرفض المجتمعي لـ"النَوَر"، وفي حال عرف ذوي أي فتاة أنها وقعت في حب شاب يتحدر من إحدى القرى القريبة من المعسكر، يسارعون لتزويجها من أي شاب من أقاربها، إلا أن "سوسن" تقول: «ليس هناك وقت للحب، الفتاة ما إن تبلغ تجد نفسها مزوجة من أحد أقاربها، ولن يختلف الموضوع كثيراً عن بيت أهلها، فكلها خيام، ومتلاصقة، لدرجة أنها لن تجد أي تبدل في حياتها سوى أنها أصبحت على ذمة رجل».
وتضيف الفتاة التي حلمت يوماً بالفستان الأبيض: "حين كانت أي امرأة ترفض الغناء والرقص للزبائن، فإنها تتعرض للضرب من قبل والدها، كانوا يجبروننا على ممارسة هذا العمل بكونه السبب الوحيد الذي يدفع الزبائن للحضور لتناول وجبة طعام في خيمة على طرف طريق"، وخلال 13 عاما قضتها في الرقص والغناء، لم تلتقِ "سوسن" برجل واحد يحترم نفسه من الذين يدخلون إلى خيامهم، فهم غالبا ما يملكون تصوراً أن "الحجيات يمارسن الدعارة".
ونتيجة للحرب التي قطعت الطرقات، هربت سوسن البالغة من عمرها 35 عاماً إلى العاصمة مع ذويها، لتسكن وأسرتها المؤلفة من نحو 25 شخصاً، بينهم 6 أبناء لها وزوجها، في بيت بمنطقة "كرم صمادي" بمدينة جرمانا شرق العاصمة، وتحولت النساء والأطفال من أفراد العائلة إلى التسول، بينما يجلس الذكور في المنزل أو يعملون ببيع الدخان المهرب، ليكون دخل العائلة مرتفعاً للغاية، وتعترف أن كل من أبناءها الست يحصل على ما يقارب 5000 ليرة يومياً من التسول، وعلى الرغم من تعرض بنتيها البالغتين من العمر 13 و 15 عاما للتحرش بشكل يومي، إلا انها لا تجد ضيرا من استمرارهن بالعمل.
تخاف سوسن من فكرة أن تقع إحدى بناتها في حب شاب من أبناء المدينة، وتقول: «الكل ينظر إلينا على إننا رخيصات، من سيحاول التودد من إحدى بناتي سيكون غايته الحصول على جسدها، لذلك أحذرهن من الشباب بشكل مستمر، كما إن رد فعل العائلة حالياً غير محسوب، فإن كان الزواج وسيلة لمعالجة حالات العشق الممنوعة سابقاً، فالأمر اختلف، وبات الشبان من أبناء القرباط يخافون التورط بالزواج».
حتى الملاهي رفضتنا
إن سألت إحدى "الحجيات" عن سبب تحولها للتسول بدلاً من البحث عن عمل آخر، لتقول لك لم أجد عملاً، وهذا ما تؤكده نور التي تبلغ من عمرها 27 عاماً، حيث تقول: «كنا نتنقل بين محافظتي الرقة والحسكة قبل أن نستقر في دمشق، عملت مع أهلي لمدة أربع أعوام فقط، كنت متزوجة، إلا أن زوجي توفي في الرقة بعد أن أنجبت ولدين، وبقيت اعمل كراقصة إلى أن جئنا إلى دمشق»، ولم تحصل نور على فرصة للعمل حتى في الملاهي الليلية على الرغم من إنها تمتلك صوتاً جميلا في الغناء.
وتوضح لـ"جريدتنا"، أن «أصحاب الملاهي الليلية لا يقبلون بتشغيل أي من الفتيات اللواتي ينتمين لمن يمسونهم بـ"القرباط أو النور"، وما يسمع عن إن المشهورات حاليا من "النوريات"، هو غير صحيح، فهناك بعض ممن ينتمون لهذه التسمية كانوا يعيشون في ريف حمص وحماه وحلب ومحيط مدن الساحل، وهؤلاء منبوذون حتى من الغجر أنفسهم، لأنهم عملوا في إحياء الأعراس للقرى التي كانوا يسكنون في جانبها، أو إن بعضهن مارسن مهنة الدعارة، وهذا الأمر غير مقبول من عوائلنا».
لا تنكر نور أن بعض الفتيات اللواتي يعملن في التسول قد يخضعن للمغريات المالية التي تقدم لهم مقابلة ممارسة الدعارة، ولا تنكر أيضاً إن سكان المدن والريف ينظرون إلى الغجر على إنهم "لصوص – يخطفون الأطفال – يعملون بالدعارة"، إلا أنها تؤكد في الوقت نفسه أن من يمارسون هذه الأعمال لا يحتاجون إلى التسول لتغطية تكاليف حياة أسرتهم التي تتكون غالباً من أعداد كبيرة، فأصغر أسرة تتكون من 10 أفراد في الحد الأقصى، وتسخر حين تسألها عن "تحديد النسل"، وتقول: "من تفكر بمنع الحمل يطلقها زوجها فوراً، فهي تخالف الشرع والدين".
في الهوامش..
"القرباط" وهم رؤوس "النور"، جاءت تسميتهم من جبال الكاربات في أوروبا وهم يمارسون ويحافظون على لغتهم الأم التي تعرف باسم "لغة العصفورة"، أو لغة "الضوم واري" ويتميزون بالقسوة ولا يتزاوجون من العشائر النورية الأخرى وعشائر النور تتفرع إلى عشائر مهنية، لا دموية عصبية، مثل الطبالة والرياس والطنجرلية والسعّادين ومروضي القردة والدببة والسعادين والبهلوانيين والحدادين والصباغ وتجار الخيول والحمير الهزيلة، ونور تلبيس الأسنان بالذهب والمبيضين وأصحاب القدور الذين يعرفون اليوم باسم "الحجيات" والشعّار أو القواصيد.
ولا يعرف العدد الحقيقي للغجر في سوريا وما نسبته إلى السكان، فإن كان البدو يشكلون 1% من تعداد السكان قبل الأزمة، فإن الغجر لا يعدون بضعة آلالاف تنتشر في محيط المدن، وتعتمد حياة بعض قبائلهم على مجموعة كبيرة من المهن منها "البصارة – التسول – تركيب الأسنان – تبييض الأواني المعدنية"، فيما تعتبر مهنة "الحجيات"، هي الأقل ممارسة من قبل "عشائرهم".
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: