أمريكا تتخلى عن دور شرطي العالم
فارس الجيرودي
تعرض قرار ترامب بسحب الجيش الأمريكي من سوريا لانتقادات داخلية لاذعة من قبل نواب كونغرس وإعلاميين، حيث رأوا أنه ليس أقل من استسلامٍ صريح أمام خصوم واشنطن روسيا، سوريا، إيران، وأمام الشريك السابق للولايات المتحدة في الصراع السوري، والذي انتقل للخندق المقابل في الأستانا "تركيا"، كما اعتبر خيانة صريحةً لحلفاء الولايات المتحدة الأهم اليوم على الساحة السورية تنظيم "قسد" الذي ترك بين فكي كماشة داعش وأردوغان، حيث عبر مسؤولوهم عن خشية من تطهير عرقي تحضره تركيا للأكراد في المنطقة.
ولا يمكننا أن نفصل هذه الانتقادات الداخلية والأوروبية الشرسة عن حالة الامتعاض التي تسود الأوساط السياسية في أمريكا وأوروبا من التغييرات الجذرية التي أجراها الرئيس ترامب، على الاستراتيجيات الأميركية حول العالم، وهو ما كان قد أعلن عن نيته القيام به خلال حملته الانتخابية.
حيث ترى النخب السياسية التي كانت تتحكم بالقرارين الأمريكي والأوروبي خلال العقود الماضية، أن ترامب يتخلى عن دور أمريكا كشرطي للعالم، ويخرب ببساطة كل النظام العالمي الذي عملت الولايات المتحدة وشريكتها أوروبا على تصميم أسسه منذ سقط الاتحاد السوفيتي وانفرد الغرب بإدارة شؤون العالم.
وتتمتع النخب السياسية الغربية السابقة بارتباطات قوية بوسائل الإعلام الرئيسية في أميركا وأوروبا، والتي أدت بسبب ذلك دور القنوات الناقلة للآراء والحملات المنتقدة لترامب منذ دخل البيت الأبيض، مما دفع الرئيس الأمريكي لإطلاق لقب "عدو الشعب" على وسائل الإعلام تلك.
ولعل خطوة الاعتراض الأبرز على قرار ترامب تمثلت في استقالة وزير دفاعه ماتياس، الذي رأى في الانسحاب الأمريكي الكامل من سوريا والجزئي من أفغانستان، نكوصاً عن التزامات واشنطن تجاه حلفائها في المنطقة، وتراجعاً عن قرار التصدي لكل من الخصمين الروسي والصيني في البر الآسيوي، حيث نقلت مصادر مقربة منه أنه قرر الاستقالة بعد فشله في إقناع ترامب بالعدول عن قراره.
لكن ترامب رغم ذلك يبدو قادراً على احتواء الحملات الشرسة ضده بما فيها استقالة وزير دفاعه، حيث تحدثت وسائل الإعلام الأمريكية المعادية له، بنفس من الرثاء عن استقالة ماتياس، باعتباره آخر العقلاء المحيطين بترامب، مشبهة ما حدث بتخلص الامبراطورالألماني فيلهلم الثاني من مستشاره القوي بسمارك عام 1890، حيث أصبح طليق اليد بعد ذلك.
في الواقع تأتي قوة موقف ترامب وقدرته على الصمود في وجه كل الانتقادات ضده، والتي لم يتعرض لمثيل لها رئيس أمريكي قبله، من حقيقة أن المشروع المضاد الذي تستشرس الطبقة السياسية والإعلامية الأمريكية في الدفاع عنه، مجرب ووصل إلى طريق مسدود، بل إن الرئيس الأميركي نجح في الوصول إلى البيت الأبيض من خلال امتطاء صهوة الغضب الشعبي الأمريكي من النتائج الاقتصادية الكارثية للتدخلات العسكرية الأمريكية حول العالم منذ عمليتي غزو أفغانستان والعراق عامي 2001-2003، حيث ما فتئ ترامب يذكر أن الولايات المتحدة خسرت نحو 7 تريليون دولار في حروب الشرق الأوسط، دون أن يعود ذلك عليها بأي فائدة.
على أي حال ومهما اختلفت التقييمات لقرار الانسحاب لكنه يبقى بالنسبة لترامب -على الأقل- اعترافاً عقلانياً بما يعتبره حقائق الأمر الواقع، وموازين القوى في الساحة السورية، وفي منطقة الشرق الأوسط عموماً، فالوجود الأمريكي في المعادلة السورية هدف لتحقيق أهداف استراتيجية أهمها الإطاحة بالرئيس السوري، وتقليص الوجود الإيراني المهدد لأمن إسرائيل، وطالما أضحت هذه الأهداف مستحيلة التحقق، يصبح الاحتفاظ بوجود عسكري أمريكي في بيئة معادية وخطرة مليئة بالعناصر المعادية، لعبة خاسرة فضل ترامب الانسحاب منها في الوقت المناسب، خصوصاً بعد انهيار داعش، الذريعة المعلنة التي استخدمتها الولايات المتحدة لوجودها العسكري في سوريا.
ترامب دافع عن نفسه في وجه الحملات الداخلية الأمريكية التي تتهمه بالتراجع أمام الخصوم فكتب على تويتر: «روسيا وإيران وسوريا وغيرهم... سيكون عليهم محاربة داعش وغيرها، من دون أمريكا»، لكن عملياً لا يتوقع أن يؤدي الانسحاب الأمريكي إلى انتعاش داعش مرة جديدة شرق سوريا، إذ ليس ثمة فراغ سيتشكل في المنطقة، فكل من الدولة السورية وتركيا تبدوان في حالة جاهزية لملء الفراغ.
كما لا يتوقع أن يؤدي الانسحاب الأمريكي لزيادة النفوذين الإيراني والروسي في سوريا كما يوحي أعداء ترامب، صحيح أن الدولتين خرجتا على الجانب المنتصر من الصراع، لكن انسحاب أمريكا من المعادلة سيؤدي إلى استغناء الدولة السورية عن الحاجة للاستعانة بالحلفاء الأجانب، ففي النهاية لم تحقق قسد ما حققته من سيطرة على مساحات شاسعة شرق سوريا، لولا الدعم الجوي الأمريكي الذي أعطاها حجماً أكبر بكثيرمن حجمها الحقيقي.
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: