عن القانون الأهم لضبط "سعر الصرف ؟!
الدكتور مدين علي
إن حالة الإضراب الاقتصادي الكبير، التي يعيشها الاقتصاد السوري، إلى جانب مشاعر القلق والخوف، القابضة بقوة على قلوب غالبية كبيرة من المواطنين السوريين، حول طبيعة المشهد الاقتصادي السوري، واحتمالات تطوره في القريب العاجل، دفعت الكثير منهم لطرح تساؤلات عديدة، حول سبل ضبط سعر الصرف الليرة السورية، وكيفية الحد من الانخفاض الدراماتيكي، الذي تجاوز حدود (600) ل.س للدولار. وقد تم طرح الكثير من الأفكار والمقترحات، التي نحن ليس بصدد تقييمها، بهدف تأييدها أو مصادرتها، إذ أن بعضها ينطوي على مقاربات، ربما تكون موضوعية في جانبٍ كبيرٍ منها، وبعضها الآخر، لا نتفق معه على الإطلاق، والموقف منه بكل الأحوال، لا يتعدى نطاق حدود وجهة النظر.
لكننا وجدنا أنه من الضروري، التوقف أمام الطرح المتردد كثيراً والمُطالب باستعادة العمل بأحكام القانون رقم (24) لعام 1986، والإجراءات الجزائية والمدنية، التي يمكن الإشارة إليها عن طريق الآتي:
ــ مع مراعاة أحكام أنظمة القطع، يعاقب بالاعتقال المؤقت من خمسة عشر سنة إلى خمس وعشرين سنة (15ـ 25) سنة، كل من يهرب أو يخرج خارج القطر العربي السوري، بأية وسيلة كانت، العملة السورية والعملات الأجنبية، أو الشيكات أو الشيكات السياحية، أو الحوالات، أو وسائل الدفع الأخرى المحررة بالعملات الأجنبية. ( المادة 2)
ــ يعاقب بالاعتقال المؤقت من ثلاث سنوات إلى عشر ( 3ـ 10 ) سنوات كل من يحاول أن يقوم ببيع أو شراء العملات الأجنبية، أو الشيكات أو الشيكات السياحية، أو الحوالات، أو وسائل الدفع الأخرى، المحررة بالعملات الأجنبية، وكذلك كل من يتعامل بها، أو يتداولها في القطر العربي السوري، عن غير طريق المصارف المأذونة أو المؤسسات المرخصة بذلك. ( المادة 3)
ــ يعاقب بالاعتقال المؤقت من سنة واحدة إلى خمس سنوات (1ـ5) سنوات، كل من يمتنع أو يتأخر بدون مبرر مشروع، عن إعادة الأموال الواجب إعادتها إلى القطر العربي السوري، بموجب أنظمة القطع، أو يتسبب في منع أو تأخير إعادتها، سواء أكانت هذه الأموال ناشئة عن نشاط اقتصادي، أو تجاري جرى في القطر، أو نتيجة لالتزام بإعادة هذه الأموال، أو نتيجة لإخراج أية مواد أو بضائع يجب إعادة قيمتها. ( المادة 4)
ـ مع مراعاة الأنظمة المتعلقة بإدخال المعادن الثمينة، من أجل تصنيعها أو تصدير المصنع منها، وباستثناء إدخال وإخراج الحلي والمجوهرات الشخصية المتعارف على حملها. يعاقب بالاعتقال المؤقت من ثلاث سنوات إلى عشر ( 3 ــ 10) سنوات ، كل من يقوم بإدخال المعادن الثمينة، إلى القطر، أو إخراجها منه، وكل من يستعملها وسيلة للمضاربة، وكل من يتداول أو يتاجر بالمسكوك أو غير المصنع منها، عن غير طريق المصارف المأذونة بذلك ( المادة 5 الفقرة أ).
ــ يقصد بالمعادن الثمينة، الواردة في الفقرة (آ) من هذه المادة: الذهب والفضة والبلاتين والماس ( المادة 5 الفقرة ب).
ــ يعاقب بذات العقوبة المنصوص عليها في المواد السابقة العامل لدى أي من الجهات العامة المكلف بقمع هذه الجرائم، أو الكشف عنها أو ضبطها، إذا تستر عليها أو سهل وقوعها، أو لم يخبر عنها، أو لم ينظم بها الضبط الأصولي ( المادة 6).
ـــ يعاقب المحرض والمتدخل والشريك بذات عقوبة الفاعل (المادة 7).
ــ تصادر المواد الجرمية المضبوطة، والأدوات والوسائط المستخدمة في إتمام الجريمة لمصلحة الخزانة العامة حكماً، وتقضي المحكمة المختصة بذلك عفواً.
ــ إذا لم تجاوز قيمة العملات أو المعادن الثمينة، موضوع الجرائم المنصوص عليها في المواد 2 و3 و4 و5 السابقة، ما يساوي ألفين وخمسمائة ليرة سورية، يعاقب مرتكبوها بالغرامة من خمسة آلاف إلى عشرة آلاف ليرة سورية (المادة 8).
تلك هي أحكام القانون 24 لعام 1986، وعليه يبقى السؤال الأبرز في هذا الإطار هو: إلى أي مدى يمكن العمل في هذه اللحظة التاريخية بأحكام هذا القانون ؟
ثمة مسألة على غاية كبيرة من الأهمية، يتعين علينا أن نعي مضمونها بقوة، عندما ينصب النقاش على الأسس، أو المداخل الإطارية والعملية، ذات الصلة بصياغة الإطار العام لبناء الدولة ومؤسساتها، وهي أن القوانين والتشريعات، تخضع دائماً لأحكام قانون الصحة النسبية في الزمان والمكان. أي أن ما صح منذ (10) سنوات، ليس بالضرورة أن يصح الآن، وما يصح في بلد ما، ليس بالضرورة أن يصح في آخر، وتبقى الحقيقة الأبرز دائماً، هي أن القوانين بكل الأحوال، هي آليات ناظمة لسيرورات بنية، ومسار منظومة معينة، تحكمها سياقات اللحظة التاريخية، المحددة لاتجاهات التطور ومداه، والأهم من كل ذلك هو محتواه، ما يعني أن حاجة البلد بالمنظور الاستراتيجي، على أهمية ذلك ليس لقانونيين فنيين تكنوقراط، بارعون في وضع الحواشي وتكييف التشريعات والقوانين (ذلك سهل وبسيط، وهنا ربما تكمن الشياطين )، بمقدار ما نحتاج إلى فقهاء وفلاسفة من طبيعة خاصة، لديهم الفهم العميق والمتكامل لمضمون النظرية الاقتصادية، ويمتلكون باعاً طويلاً في علم الاقتصاد والقانون، وهذه في الواقع كانت وما تزال، المشكلة الأبرز، إلى جانب مشكلات أخرى تخطيطية وتنظيمية، واجهت مختلف البرامج والخطط ، التي جاءت في سياق برنامج الإصلاح الاقتصادي والإداري في سورية طوال عقدين من الزمن.
في الأحوال كافة، إن القانون رقم 24 لعام 1986 (موضوع النقاش)، كان قد اندرج تاريخياً في سياق الاستجابة العملية، لمقتضيات مرحلة تاريخية معينة انقضت نهائياً، كانت الدولة تمسك فيها بقوة على مفاتيح الاقتصاد السوري، وتسيطر بحزم على مكامن القوة العميقة، عن طريق احتكار الدولة السورية، لكثيرٍ من الأنشطة الاقتصادية (الإنتاجية والخدمية)، التي كانت بغالبيتها، محظورةُ على القطاع الخاص. مرحلةُ تاريخية، كانت الدولة السورية ترتبط أثناءها بشبكة علاقات اقتصادية خارجية عميقة ومركّزة، مع دول أوربا الشرقية ( الاشتراكية سابقاً)، تحديداً الاتحاد السوفياتي.
علاقات حكمتها تفاهمات وتسهيلات معينة، لعبت دوراً معيناً في الحدّ من مفاعيل التأثير السلبي لندرة القطع، وتقلبات سعر صرف الدولار، واتساع الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء، مع الأخذ بالحسبان أن عدد سكان سورية، لم يكن يتجاوز آنذاك حدود اثنا عشر مليون نسمة، ويخضعون بغالبيتهم لنمط عيش معين، حددت ملامحه مفردات ثقافة استهلاك مقيدة، تحددت سقوفها بواسطة ضوابط أيديولوجية محددة، وسقوف انفتاح ثقافية وإعلامية ومعلوماتية محدودة ومنخفضة.
ويبقى الأبرز في السياق ذاته، هو طبيعة القطاع المالي التاريخي السوري، الذي يمكن أن يُوصف بأنه، كان قطاع تقليدي وبسيط، يعتمد على نشاط أربعة مصارف حكومية فقط، هي البنك العقاري والتجاري والتوفير والتسليف الزراعي، لم يتجاوز حجم نشاطها نطاق التخصص التقليدي، المحدد بأسمائها أساساً، بحسب القوانين واللوائح التنفيذية الناظمة لعملها.
أما وقد اتجهت الدولة السورية منذ ما يقارب عقدين من الزمن، نحو تبني استراتيجية تحول وانفتاح اقتصادي عميق، بواسطة مجموعة كبيرة من الصكوك القانونية والأطر التشريعية والمؤسساتية، التي لعبت دوراً كبيراً في إعادة هيكلة الاقتصاد السوري، وفتحت الباب واسعاً على مصراعيه، لتدفق الاستثمارات والرساميل، ومختلف أنواع التحويلات المالية، دفعت المنظومة الاقتصادية نحو الرهان بقوة، على النمو الموجه للتصدير، بهدف تحسين حصائل القطع الأجنبي، وفتحت الباب أمام القطاع الخاص، للدخول كمكون بنيوي فاعل ومؤثر في صميم البنية الهيكلية للاقتصاد السوري الجديد، بواسطة مجموعة كبيرة من الآليات و الديناميات الاقتصادية، التي تعمقت كيانياً، جراء تبني منهج التشاركية، واستصدار قوانين الاستثمار، والتراخيص والصكوك القانونية والتشريعية، للعديد من البنوك والجامعات الخاصة والمؤسسات والهياكل الإدارية، وفتح سوق دمشق للأوراق المالية، والتوجه نحو الالتزام بالمعايير الدولية (معايير الحوكمة المالية)، و تبني الكثير من النظم القائمة على التحرير المالي، والاندماج الاقتصادي والتكنولوجي الدولي.
في ضوء ما تقدم، وفي ضوء الحاجة الماسة في الوقت الراهن، لاستقدام الرساميل والاستثمارات، واستقطاب رؤوس الأموال المهاجرة خارجياً وداخلياً، للعودة إلى حاضنة الاقتصاد السوري، والاندماج والتكامل داخل شرايين المنظومة الاقتصادية السورية، أصبح الرهان على استعادة العمل بأحكام القانون 24 لعام 1986، غير صائباً، و خياراً ينطوي على مفاعيل سلبية، وتداعيات خطيرة، ستدفع الاقتصاد السوري للدخول في مواجهةٍ عنيفةٍ، مع تحديات اقتصادية نوعية، لا يمتلك في اللحظة الراهنة، لا القدرة، ولا الإمكانية، لاحتواء مفاعيلها، خاصةً وأن هناك حجوماً كبيرة من الأرصدة الدولارية، بات مقبوضاً عليها، ومحتكرة بقوة، في الخارج والداخل من قبل فعاليات، ومراكز قوى، ذات نفوذ وقدرة كبيرة على التأثير اقتصادياً وسياسياً. ما يعني أن المدخل الأساس لمعالجة مشكلة القطع، هو الضرب بقوة على أيدي الفاسدين والمتلاعبين والسماسرة، ومحاسبتهم على أسس وقواعد قانونية مختلفة، عما ورد في مضمون أحكام القانون رقم 24 لعام 1986.
مع الأخذ بالحسبان ضرورة إعادة النظر باستراتيجيات السياسة العامة للدولة، وروافعها، تحديدا لجهة ما يتعلق باستراتيجيات الإنتاج، وسياسات النمو والتنمية الاقتصادية الكلية "الماكروية"، وعدم الاكتفاء بالرهان على بعض مفاعيل أدوات السياسة النقدية، ومردوداتها المتواضعة، والدور الإنقاذي للبنك المركزي السوري.
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: