دون أن يعادينا.. غادر "الطيب"
سيسجّل هذا اليوم الثامن عشر من أيار موعداً لمغادرة أحد الفلاسفة السوريين في زمن التوهان الذي عشناه أفراداً وعاشته البلاد بسببنا، الطيب تيزيني (1934 - 2019) الفيلسوف الذي صنّفته الجمعية العلمية والفرنسية كواحد من أهم مئة فيلسوف في العالم ضمن تصنيفها لعام 1998 أي قبل عشرين عاماً غيّب عن أذهان السوريين المثقفين منهم والعاديين وافتعلت قطيعة بين فكره وبين الأجيال الشابة بعد أن كان في أوج لمعان أفكاره الجدلية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي حيث أثارت كتبه "من يهوه إلى الله ( في مجلدين)" و "من التراث إلى الثورة - حول نظرية مقترحة في التراث العربي" الجدل واستلزمت المقالات والردود والشروحات من مختصين وهواة، في زمنٍ كانت النقاشات في مجدها على خلاف الإهمال للفكر واللوثة التي أصابت العالم جعلت من الناس مستعجيلن ومن المثقفين وصوليين واستهلاكيين ومن السياسيين جبناء فواجهوا الفكر بالقطيعة وابتعدوا عن رجلٍ لم يتوقف عن الكتابة وسجل في رصيده أكثر من عشرين مؤلفاً بدأها عام 1971 بكتابه "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط" ولمّا ينهها بسيرته الذاتية التي لمّا تنشر وقد شرع بكتابتها عام 2016 إضافةً إلى مواصلته مراجعة كتبه وتدقيقها بإعادة النظر في أفكاره.
يمتاز الفيلسوف الراحل بأنه الرجل الذي طرق أبواب الفكر من مشارب الفلسفة والسياسة، فقد عرف الماركسية والقومية والأيديولجية الإسلامية، فلم يعادها كماركسي إنما سعى إلى تقديم الواقع بالاقتراب من الناس والعيش بين البسطاء. والسعي إلى إيجاد الحلول للمشكلات الفكرية، والمعرفية. من خلال تعريف الناس بما يريدون دون مقاطعة أو تعالٍ، فالمفكرون والفلاسفة هم المتواضعون أبداً العارفون بهموم الناس، وصاحب الإيضاحات الكثيرة بين المطلق والنسبي والأجوبة الهادئة في الغيبيات والميتافيزيقا، لاشكّ أنه من خيرتهم.
استعاد السوريون وجه الطيب تيزيني مع بدء الأحداث في سوريا عام 2011 وقد شارك في اللقاء التشاوري السوري لشهر حزيران للعام نفسه وقدم رؤيته، وكان فاعلاً في الرأي إلى أن صار صوت الرصاص أعلى وطال مدينته حمص أول ما طال، فانكفأ إلى أعماله البحثية والعلمية مكتفياً بالسفر بينها وبين دمشق رافضاً مغادرتها في أحلك الأيام التي مرت بها.
يعرف الفلاسفة والمتخصصون القيمة الفكرية للطيب تيزيني، فهو رجل يصعب اختصاره بكلماتٍ واهية يتداولها العوامّ، وأي محاولةٍ لتشبيه المفكرين هي قاصرة وخجولة ولكن تجاوزاً يمكن أن نعترف أن فيه من صفات البحر، فهو المتلاطم والهادئ، الغامض والواضح. وجلّ واجبنا كأجيال عاشت في زمن الطيب تيزيني أن نعرف أنه رجل بقيمة فلاسفة من أمثال ابن رشد، وهنا المشابهة في القيمة لا في المحتوى وإن حدثت تقاطعات كثيرة، فبيننا أناس تخرجوا من الجامعة على يدي هذا الرجل ومنهم من أشرف على أبحاث الدراسات العليا في الماستر والدكتوراه، وهؤلاء مطالبون قبل غيرهم بأبحاث وتبسيطات وتوضيحات في فكر الطيب تيزيني، فما قصّرت به المؤسسات الرسمية يجب أن يكون بأيدينا، فالطيب تيزيني رجل للفكر والعلم اختلفنا معه في السياسة أم اتفقنا.
المصدر: خاص
شارك المقال: