بين النقص في حجم الكوادر ومتطلبات الكيف.. ضاعت الطاسة
د.مدين علي
تعد قوة العمل أحد أهم عناصر الإنتاج الأساسية، التي تؤثر إلى حدٍّ كبير على كفاءة الاقتصاد الوطني، وعلى إمكانية المنظومة الاقتصادية وقدرتها، على الاستخدام الأمثل للإمكانات والموارد الاقتصادية، سواء كان لجهة ما يتعلق باستثمار الموارد الطبيعية والبشرية، أم لجهة ما يتعلق بالقدرة على إدارة التقانة والتكنولوجيا، وبالتالي تطويعها كمدخل لتوطينها كجزءٍ بنيوي وكياني أساسي، في منظومة الإنتاج الكلية.
في كافة الأحوال، أن عملية الاستثمار في الكوادر البشرية، وبرامج التدريب والتأهيل، لم تعد تندرج، في عداد وجهات النظر، وتصنيفات الرأي، إذ أنه لا يمكن اللحاق بركب التطورات العالمية المعاصرة، ولا الاندماج في سياقاتها المتسارعة، إلا بواسطة كوادر بشرية، مدربة ومؤهلة، بصورة متقدمة ومتكاملة، من الناحية التقنية والمعرفية في ضوء ما تقدم، يبقى السؤال التنموي المطروح بقوة في سوريا: ما هو واقع الكوادر البشرية في المؤسسات السورية الحكومية، ما هي مشكلاتها ؟ وماهي نقاط ضعفها وقوتها؟ وإلى أي مدى قادرة، أن تكون رافعة حقيقية لاقتصادٍ، يواجه استحقاقات الحرب وما بعدها؟.
لقد توسع الجهاز البيروقراطي في القطاع العام، وفي جميع المؤسسات الحكومية السورية، بصورة كبيرة، خلال العقود الخمسة الماضية، لأسباب عديدة، لا يتسع الإطار لمناقشتها الآن، وكان العمل في مؤسسات القطاع العام، ومؤسسات الخدمة المدنية، يعد رغبة حقيقية لغالبية عظمى من قوة العمل في سوريا، طوال عقودٍ من الزمن، وذلك لأسبابٍ مختلفة، اقتصادية واجتماعية وثقافية عديدة، لا يتسع الإطار لمناقشتها وتحليلها الآن.
إلا أن ما يجب أن يؤخذ بالحسبان، في هذا السياق، هو أن العمل في القطاع العام ومختلف المؤسسات الحكومية، كان قد أسهم إلى حدٍّ كبير، في توفير فرصة حقيقية، لمجموعة كبيرة من الكوادر العاملة في هذه المؤسسات، للتعلم والتدرب، واكتساب الخبرة العملية والتنفيذية، الأمر الذي ساعدها بقوة، في أن تتحول إلى نخب فنية نوعية، وتكنوقراط مميزين، وكوادر بيروقراطية، لها باع طويل في مختلف المجالات، الطبية والهندسية والاقتصادية... وغير ذلك من المجالات، أسهمت إلى حدٍّ كبير في عملية التأسيس لبنية اقتصادية وخدمية تحتية متينة، شكلت قاعدة صلبة لعملية التنمية في سوريا لسنواتٍ طوال.
لكن المشكلة الكبرى، التي باتت تواجه جميع مؤسسات الدولة السورية في الوقت الراهن، تتولّد من النقص الحاد، في حجم قوة العمل ونوعيتها، إذ فقدت غالبية كبرى من مؤسسات القطاع العام، ومؤسسات الخدمة المدنية في سوريا، كمّاً كبيراً من الكوادر النوعية ( فنيين ومتخصصين وتكنوقراط ومهنيين وأصحاب حرف... )، لأسبابٍ مختلفة وعديدة، يندرج في مقدمتها ضعف الأجور، وتمكن بعضهم من إيجاد فرص عمل بديلة، ذات دخل أعلى، في الداخل والخارج، أو بسبب الالتحاق بصفوف الجيش والقوات المسلحة، أوالهجرة ومغادرة البلاد.. وغير ذلك من الأسباب، في الوقت الذي توقف فيه قسم كبير من برامج التدريب والتأهيل، لا سيما برامج التدريب الخارجية، جراء الحصار، وفرض العقوبات الدولية على سوريا، كل ما تقدم جاء بالتزامن مع تعقيدات ظروف الحرب، وارتفاع حدّة مفاعيلها السلبية، طوال سنواتها التسع، والتي كان لها دور كبير في دفع الدولة السورية، لتبني استراتيجية انفاق بديلة، تنطلق من أولويات مختلفة، مضمونها الاستراتيجي، تخفيض حجم الاعتمادات المرصودة لتمويل الإنفاق العام، ومنها بالطبع اعتمادات الإنفاق على برامج التدريب والتأهيل.
إن ما تقدم، أسهم إلى حدٍّ كبير في انتاج مشكلات كبرى، باتت تواجه بقوة مؤسسات الدولة السورية، وتحد من قدرتها على الارتقاء، بمستوى الإنجاز، وتحسين مستوى الكفاءة و الأداء.
وفي الواقع إن مشكلة نقص الكوادر في المؤسسات الحكومية وأجهزتها، لها بعداً آخر، يختلف إلى حدٍّ كبير من حيث المحتوى والتأثير، إذ أن مشكلة المؤسسات الحكومية، لا تتمثل فقط بالنقص في حجم الكوادر الفنية، بل تتمثل أيضاً، بالفرق الشاسع، بين خبرات النسق الأول في الجهاز البيروقراطي وكوادره "تحديداً ممن ترك العمل، أو حتى ممن بقي على رأس عمله، لكنه محبط ويائس"، وبين خبرات كوادر النسق الثاني، ممن يحملون المؤهل العلمي نفسه، والشهادة ذاتها، لكنهم يفتقدون الخبرة العملية، والمهارات الإدارية المناسبة أو المطلوبة.
لقد حاولت الحكومات السورية المتعاقبة، أن ترمم النقص في حجم الكوادر، عن طريق إجراء مسابقات، لتعيين كوادر من جميع الفئات الوظيفية، لكن المشكلة الحقيقية أو الجوهرية لم تُحل، لا بالنسبة لمؤسسات الدولة، التي تعاني من نقص في حجم الكوادر من حملة الشهادات الجامعية، ولا بالنسبة لحملة الشهادات الجامعية، الذين يبحثون عن فرص العمل، لأن مدخل المعالجة خاطئ.
لأن أساس المشكلة ومضمونها، ليس بكم المتقدمين "عددهم"، ولا بشهاداتهم، لطالما لدينا عشرات ألوف المتقدمين، ممن يحملون شهادات جامعية، بل في مبدأ عملية العلاج، أي في عملية التعيين ذاتها، وفي مضمونها وغاياتها، أي في المسابقات، التي تجريها الحكومة، والتي لم تستند "عن قصدٍ، أو بخلافه"، إلى أسس دقيقة، أو إلى دراسات وافية وكافية لطبيعة الحاجة في المؤسسات، ولا لطبيعة مشكلة النقص في حجم الكوادر وأسبابها، كما أنها لم تستند إلى دراسة موضوعية لطبيعة مشكلة البطالة، التي ترتفع نسبها بصورة مؤلمة، بين صفوف الجامعيين، وحملة الشهادات العليا.
لقد أجرت الحكومات المتعاقبة في سوريا مئات المسابقات طوال العقود السابقة، دون إجراء أي تعديل لبنية الملاكات الوظيفية التقليدية أو التاريخية للمؤسسات، التي تتكون من الناحية الهيكلية أو البنيوية، بنسبة تقارب حدود الـ ( 80%) منها، من الفئة الثانية، أي من حملة شهادات المعاهد المتوسطة، والثانوية العامة، بمختلف فروعها "العلمي والأدبي والصناعة والتجارة والفنون النسوية والعلوم الشرعية"، يُضاف إليهم حملة الشهادة الإعدادية "فئة ثالثة"، والسائقين والحراس "فئة رابعة وخامسة"، ما يجعل فرصة حملة الشهادة الجامعية ضعيفة ومحدودة، والمنافسة بينهم شديدة وقوية لمليء شواغر فئة أولى، محدودة العدد، بحكم الملاك، ما أدى إلى إبقاء نسبة البطالة مرتفعة بين الشباب والشابات، خريجي الجامعات والمعاهد العليا.
وفي سياقٍ متصل، لا بد من الإشارة، إلى أن محدودية الفرص، أمام حملة الشهادات الجامعية، المتقدمين للمسابقات، كان لها دور كبير، في ارتفاع منسوب الابتزاز، والفساد والإفساد، إذ أن الحاجة ومفاعيلها، دفعت كثيرين من خريجي الجامعات للبحث عن الفاسدين، أو عن وكلائهم، لدفع الرشاوي، لضمان الفوز، أو النجاح في المسابقات.
في الأحوال كافة، إن المؤسسات الحكومية هي الخاسر الأكبر في الوقت الراهن، وهي المتعثرة، في مسارها وفي أدائها، لأنها مستمرة في العمل، عن طريق منظومة أو بنية بيروقراطية "إدارية"، ضعيفة المحتوى علمياً ومعرفياً، تتكون بغالبيتها، من موظفي وعمال الفئة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة، وما زاد الطين بلة مؤخراً، هو التضخم، وبالتالي الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار، الذي أدى إلى تراجع القوة الشرائية للدخول والمرتبات، ما دفع عدداً كبيراً من الكوادر الوظيفية، من مختلف الفئات، للتقدم بطلبات إجازات بلا أجر، أو بطلبات للاستقالة من العمل بصورة مبكرة، لأجل العمل في القطاع الخاص داخل سوريا، أو لأجل السفر إلى الخارج.
وبذلك تُستكمل الخسارة الكبرى سوريا، بتسرب ما تبقى لديها، من كوادر وكفاءات، نحن في أمسّ الحاجة إليهم في الوقت الراهن.
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: