Sunday May 19, 2024     
00
:
00
:
00
  • Street journal

السياسة الأمريكية بين "طفولة" ترامب وواقعية الـCIA

السياسة الأمريكية بين "طفولة" ترامب وواقعية الـCIA

فارس الجيرودي 

تعبر التقارير الصادرة عن وكالات الاستخبارات والمراكز الاستراتيجية بصدق عن العقل العميق الذي يدير سياسات الدول الكبرى، أكثر بكثير من تصريحات المسؤولين التي تشوب مصداقيتها الحسابات الانتخابية الضيقة ومفاعيل المعارك الإعلامية مع الخصوم، لذلك يمكن أن يشكل التقرير الصادر عن وكالة المخابرات الأمريكية "السي آي ايه" حول التحديات الاستراتيجية التي ستواجه الولايات المتحدة في كل من سوريا وإيران خلال العام المقبل 2019، إضاءة مفيدة على كيف يقيم العقل الاستراتيجي الأمريكي النقطة التي وصلت إليها السياسات الأمريكية في المنطقة في مواجهة خصوم واشنطن، أكثر بكثير من تصريحات الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" أو أي مسؤول آخر في إدارته.

التقرير يكتب نتيجة ورشات عمل وجلسات عصف فكري، تنظمها الـ"سي آي ايه" خلال الشهور الأخيرة من كل عام ويدعى إليها أبرز قادتها السابقين، ومحللون استراتيجيون من العاملين فيها، وباحثون في مراكز الدراسات الكبرى الأمريكية التي تسمى بالـ think tanks ، وهي مراكز الدراسات التي تُرسَم الاستراتيجيات الأمريكية حول العالم بناء على أبحاثها، حيث يترك للرئيس التحرك ضمن إطار ما تحدده تلك المراكز من خطوط عريضة، فهي بالنهاية تمثل اللوبيات ومراكز القوى والمصالح الاقتصادية الكبرى في الولايات المتحدة.

وأبرز ما حواه التقرير الأخير الصادر مع بداية العام الجديد، هو حديثه بصراحة عن وصول المشاريع الأمريكية في كل من سوريا وإيران إلى طريق مسدود، فمشروع الدويلة الكردية في منطقة شمال شرق سوريا، مات قبل أن يرى النور حسب التقرير، حيث أجهز إعلان الرئيس "دونالد ترامب" عن نيته سحب كامل القوات الأمريكية من سوريا، على آخر ما تبقى من رصيد الثقة لدى حليف واشنطن المتبقي على الساحة السورية، أي ميليشيات "قسد" الذين سارع مسؤولوها على وقع التهديدات الأردوغانية باجتياح مناطقهم، لتقديم المزيد من التنازلات للحكومة المركزية في دمشق، والتي تبدو الطرف الوحيد القادر على توفير حماية لهم، من احتمالات تكرار تجربة عفرين المؤلمة بحق الوجود الكردي، ويتوقع تقرير "السي آي ايه" بناء على ذلك أن تستعيد دمشق سلماً –دون حاجة لخوض معارك- سيطرتها على منطقة شمال شرق الفرات.

كما يتنبأ التقرير بمصير مشابه لمنطقة إدلب وريفها قبل نهاية العام 2019، حيث أجهز الفرع السوري لتنظيم القاعدة "جبهة النصرة" على آخر وجود لقوى المعارضة السورية المسلحة في تلك المنطقة، محولاً إياها إلى إمارة وهابية جديدة، وبما أن النصرة لا تمتلك أي أجندة سياسية يمكن أن تشكل أفقاً لمفاوضاتٍ مع دمشق، فإن الدول الكبرى بما في ذلك تركيا، لن تجد أي ذريعة لمعارضة حملة سورية-روسية-إيرانية لاجتثاث إمارة النصرة، خصوصاً أن التنظيم مصنف على قوائم الإرهاب في تركيا والولايات المتحدة نفسها.

أما بالنسبة لإيران فيرصد التقرير الفشل الأمريكي الذريع في توفير الدعم الدولي للعقوبات التي أقرها ترامب ضدها، فبينما كانت العقوبات المفروضة على طهران قبل الاتفاق النووي (5+1) الموقع عام 2015 يشمل حتى روسيا والصين، تقف واشنطن اليوم عاجزةً عن إقناع حلفائها الأوروبيين بالانسحاب من الاتفاق النووي الذي انسحبت منه، وبالمشاركة بالعقوبات، بل إن ثلاثة من الدول الأوروبية أقرت آلية للالتفاف على العقوبات التي فرضتها واشنطن، مما وضع الولايات المتحدة أمام خيارين أحلاهما مر، فإما التشدد في معاقبة كل من يتعامل مع إيران، بما في ذلك الحلفاء في المعسكر الغربي، مما يعني توسيعاً لدائرة الحروب التجارية التي تخوضها حول العالم ضد كل من الصين وروسيا، لتشمل حتى أقرب الحلفاء، الأمر الذي يهدد بنتائج سلبية على الاقتصاد الامريكي نفسه، أما خيار التساهل مع المتعاملين مع إيران، فإنه يحول العقوبات الأمركية إلى عقوبات باهتة بلا معنى.

في السياق ذاته تبدو القمة التي تنظمها واشنطن في وارسو يومي 13-14 شباط المقبل، لمناقشة الملف الإيراني، أشبه بحلف دون حلفاء، فبولندا نفسها المستضيفة للقمة استبقتها بإرسال وفد دبلوماسي إلى طهران، محملاً برسالة ودية مفادها أن القمة لا تستهدف إيران، بل تستهدف البحث عن حلول توافقية للأزمة الإيرانية-الأمريكية، كما جاءت الأنباء التي نقلتها صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية عن عزوف بعض الدول الأوروبية والممثلية العليا للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي عن المشاركة بالقمة، لتفرغ الحدث من أي قيمة، وتحوله إلى مجرد هيكل فارغ.

الرئيس الأميركي وعلى طريقته التغريدية، عبّر عن موقف طفولي غاضب من التقارير الاستخبارية الأمريكية، داعياً مديرة الوكالة "جينا هاسبل" للعودة إلى مقاعد الدراسة، دون أن يقدم ردوداً عقلانية على السرد العقلاني الوارد فيها. 

 

المصدر: خاص

شارك المقال: