«البطاقة الذكية».. بديل سياساتي يحتاج لإعادة نظر
الدكتور مدين علي
تحولت مسألة تأمين مادة البنزين إلى مشكلة معقدة، واجهت الحكومة السورية طوال سنوات الحرب، وتسببت بشللٍ كبيرٍ، أصاب مفاصل الحركة الاقتصادية، فضلاً عن حالة التذمر وردود الأفعال السلبية، التي أثرت على المزاج العام، والتي تسببت في تصدع مساحة واسعة من قناعات الكتلة البشرية، التي زرعت كثيراً من الآمال على إمكانية تحسن الأحوال الاقتصادية مستقبلاً، بصورة معينة، يمكن أن تساعد في تحسن الظروف المعيشية والتنموية.
1)- حول آلية التوزيع
ثمة تساؤل مطروح، هل نحن نحتاج فعلاً لابتكار أدوات تقنين وتقشف ذكية، أمّ نحتاج لإدارة استراتيجية متكاملة للعرض والطلب على المشتقات النفطية؟
على ما يبدو إن إمكانية تأمين مادة البنزين، بالصورة التي كانت عليها طوال سنوات ما قبل الحرب، لم تعد ممكنة في القريب العاجل، وربما تحولت إلى مشكلة اقتصادية، قد تمتد لسنوات أخرى، وهذا على ما يبدو موضع تقدير وحساب، من قبل الحكومة السورية، التي اتجهت نحو المفاضلة، بين بدائل وخيارات متعددة، لحل هذه المشكلة، فكان أن اتجهت، نحو بديل سياساتي تقنيني، لتوزيع المادة، يتضمن الآتي:
تأمين مادة البنزين بكمية مسقوفة، تبلغ (100) لتر شهرياً للسيارات الخاصة، يتم صرفها بسقف تعبئة (40) لتر كل (5) أيام للسيارة، تبدأ من الأول من كل شهر.
تأمين مادة البنزين لسيارات التاكسي العمومي ومختلف السيارات العمومية الأخرى، بكمية تبلغ (350) لتر شهرياً، ، يتم صرفها بسقف تعبئة (20) لتر للسيارة كل يومين، تبدأ من الأول من كل شهر.
تخفيض مخصصات السيارات الحكومية، بنسبة (50%)، وقد تمَ تعديل قرار ليصبح (30%).
تأمين مادة البنزين بسعر حر (425) ل. س / لتر، لمن يحتاج لكميات تتجاوز السقوف المحددة في البطاقات.
ويبقى السؤال المطروح: هل أسهم هذا الخيار في حل المشكلة الاقتصادية الناجمة عن عدم توفر مادة البنزين أو ندرتها؟
2)- انحراف المسار وتغير الهدف
تستخدم مادة البنزين بصورة محدودة جداً لتشغيل وسائل الانتاج، ويبقى الاستخدام الأساس لها، هو تأمين خدمات نقل الإنتاج ونقل الركاب، وتأمين خدمات الإمداد والتأمين، وبعض خدمات النقل الأخرى.
لكن استخدام المادة بجزءٍ منه، ذهب على ما يبدو باتجاه آخر، يختلف عن الأهداف والغايات الأساسية. إذ تحول البنزين إلى مادة للإتجار، وبالتالي إلى مصدر دخل ريعي بديل، يعدُّ مجزياً من الناحية الاقتصادية، بالنسبة لكثيرين من مالكي سيارات النقل العمومية، ومختلف وسائط النقل، الأخرى العاملة على البنزين ( تحديداً سيارات التاكسي)، لطالما أن كمية البنزين المخصصة بالبطاقة، والمحددة بـ (350) لتر شهرياً، يمكن أن تُباع بعائد صافي يقارب (72000) ل.س، دون أن تتحرك السيارة مسافة متراً واحداً، وهو عبارة عن الفرق بين السعر المدعوم، والسعر الحر، موفراً مالك السيارة العمومية بذلك تكاليف الاهتلاك الميكانيكي، وتكاليف استبدال الزيوت، واهتلاك العجلات التي يمكن أن تصل بمجموعها إلى حدود (65%) من إجمالي دخل سيارة تعمل بصورة طبيعة، فضلاً عن توفير المخاطر التشغيلية، وغير ذلك من التكاليف التشغيلية الأخرى، ما يعطي الفرصة لمالكي وسائط النقل العاملة على البنزين، إما للاستراحة، أو للعمل بغنجٍ ودلال، أو لتقديم الخدمة بالسعر الذي يقرره، أو التحول نحو ممارسة عمل آخر، يختلف عن عمله الأساس، (التاكسي)، ما يعني أن عرض خدمة النقل العمومية، سوف يتراجع وستبقى مشكلة النقل مستمرة.
3)- المنعكسات الأخطر لقواعد لعبة إدارة تقنين البنزين
تتولد التداعيات الأخطر لقواعد اللعبة الجديدة، الناظمة لعملية توزيع البنزين وتخصيصه كمادة مقننة، من النتائج السلبية على عملية توزيع الثروة والدخل في سورية. حيث أن الآلية الناظمة لعملية التقنين، وإدارة العرض والطلب على مادة البنزين، تسببت في ارتفاع كبير في أسعار وسائط النقل العمومية العاملة على البنزين ( التاكسي)، إذ ارتفع سعر السيارة العاملة على البنزين، بالمتوسط بين (500000-1000000) ل.س، مع الأخذ بالحسبان أن المستفيدين الأساس هم المافيا والحيتان والهوامير، المتحكمين بسوق السيارات، ويبقى الأبرز في هذا السياق أيضاً، هو الفرق الكبير الذي حصل بعد صدور القرار بين أسعار السيارات العامة والخاصة، التي لها نفس النوع، ونفس الماركة، و نفس تاريخ الصنع، وبلد المنشأ ذاته، ما يعني أن آلية توزيع مادة البنزين، تحولت بامتياز، في سياقٍ متصل، من وسيلة لحل مشكلة اقتصادية في سوريا، إلى وسيلة فاقمت المشكلة اقتصادية، لطالما أضافت إليها بعداً اجتماعياً توزيعيا، آخر إذ حولت بين عشية وضحاها عشرات المليارات، وربما أكثر لصالح شريحة/ فئة معينة من المجتمع السوري.
4)- مدخل الحل الاستراتيجي لمشكلة إدارة العرض والطلب على الطاقة ومشتقاتها
في ضوء ما تقدم، لابد من إيجاد حلّ متوازن لهذه المشكلة، وذلك بتأمين مادة البنزين، بالسعر الحر (التكلفة + هامش الربح الوسطي)، دون تمييز بين وسائط نقل عامة وخاصة، وهو إجراء ربما يكون بدايةً صادم دون شك بدايةً، لكن يمكن للمجتمع أن يتكيف معه بسرعة، إما عن طريق إعادة هيكلة الإنفاق العائلي، أوعن طريق الاقتصاد والترشيد في الطلب على خدمة السيارات العمومية، و اللجوء إلى وسائط النقل الجماعية، أو عن طريق إيجاد موارد بديلة، من مصادر دخل مختلفة، ويبقى الأبرز في هذا الإطار اقتصادياً هو أن انخفاض مستوى حجم الطلب على خدمة وسائط النقل العمومية، جراء ارتفاع مستوى سعر خدمة النقل العمومية، يمكن أن يساعد في فتح المجال بصورة مباشرة، للمنافسة بين سائقي وسائط النقل العامة، ما يدفع بأسعار خدمات النقل للانخفاض ، الأمر الذي يمكن أن ينعكس بصورة مقبولة على مستوى الإنفاق العائلي.
في الأحوال كافة إن المدخل الأساس، لمعالجة هذه المشكلة في الظروف الاقتصادية الراهنة، يتمثل بتحرير سعر مادة البنزين على وجه السرعة، ودون تردد، وعدم التمييز بين سعر بنزين مخصص لسيارات عامة، وآخر مخصص لسيارات خاصة. مع الأخذ بالحسبان، أن تأمين الموارد اللازمة لتمويل تحرير السعر يجب أن يتم عن طريق عملية إجراء مراجعة لمضمون السياسة الاقتصادية للدولة، كرافعة لتصحيح نوعي في عملية توزيع الدخل والثروة، بصورة تستهدف تحسين واقع أصحاب الدخل المحدود والمرتبات (الموظفون الحكوميون على وجه السرعة والتحديد)، وذلك عن طريق إعادة النظر بدور أدوات السياسة المالية والنقدية والتجارية، وأدوات الحقوق السيادية والسياسية للدولة السورية، التي تمنحها كامل الحق بمصادرة ثروات أمراء الحرب الاقتصاديين، كلها أو بعضها، بحسب متطلبات تقتضيها ظروف الزمان، ووفق نسب ومعدلات، تُحدد وتُقدر، بحسب الضرورة والمصلحة الوطنية العليا.
ويبقى الأبرز في هذا السياق، هو أن ما نحتاج إليه في سوريا في الوقت الراهن، ليس ابتكار تقنيات تقنين، (التي ربما تكون ضرورية) لتوزيع المشتقات النفطية، غالباً ما تتسبب في تعقيد المشكلة الاقتصادية المتعلقة بقضايا الطاقة ( وهذا ما أثبتته وقائع الأيام والمعطيات)، بمقدار ما نحتاج إلى إدارة متكاملة للعرض والطلب على مشتقات النفط، وسياسة طاقوية رشيقة وذكية، قد تكون تقنيات التقنين، التي نصرف عليها الكثير من الجهد والمال، أحد مكوناتها التفصيلية وربما الهامشية لا أكثر ولا أقل.
المصدر: خاص
بواسطة :
شارك المقال: